تقع مغارة جعيتا في وادي نهر الكلب على بعد نحو 20 كيلومتراً شمال العاصمة بيروت، وتتكون من طبقتين، عليا وسفلى.
وافتتحت المغارة العليا في كانون الأول عام 1969، بعد أن اكتشفت عام 1958، وأهّلت للزيارة على يد المهندس والفنان والنحات اللبناني غسان كلينك. وجرى ذلك في احتفالية موسيقية أقيمت داخلها، أعدها خصيصاً لهذه المناسبة الموسيقار الفرنسي فرنسوا بايل.
وشهد هذا القسم من المغارة بعد فترة مهرجاناً موسيقياً مماثلاً في تشرين الثاني من العام ذاته، عزفت فيه مقطوعات عالمية للموسيقار الألماني كارل هاينز شتوكهاوزن. وتتميز هذه الطبقة من المغارة بمنح زوارها متعة السير على الأقدام لمسافة، بعد عبور نفق يبلغ طوله حوالى 120 متراً، ليطلّ في الممرات بعد ذلك على أقبية عظيمة الارتفاع، حيث تتوزع فيها الأغوار، إضافة إلى الصواعد والهوابط والأعمدة الكلسية وما إلى ذلك من أشكال مبهرة.
أما المغارة السفلى، فيعود تاريخ اكتشافها إلى ثلاثينيات القرن التاسع عشر، خلال رحلة للمستشرق الأميركي وليم طومسون. وكان طومسون قد توغّل فيها حوالى 50 متراً. وبعد إطلاقه النار من بندقية صيد كان يحملها، أدرك من خلال الصدى أن للمغارة امتداداً جوفياً على جانب كبير من الأهمية.
وتقتصر زيارة المغارة السفلى على عبور نحو 600 متر من أصل نحو 6910 أمتار اكتشفت حتى الآن. أما الزيارة فبقوارب صغيرة تنقل الزائر عبر مسطح مائي متعرج يقطع سكونه هدير المياه الجوفية، وتحيط به أعمدة من الصواعد والهوابط التي نحتت فيها الطبيعة على مدى ملايين السنين. ويقف على مدخل المغارة حارس الزمن، وهو أضخم منحوتة في الشرق الأوسط، إذ يبلغ ارتفاعه 6 أمتار و60 سنتيمتراً، أما وزنه فيبلغ 75 طناً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سنون عديدة مضت على تلك الحادثة، إلى أن قرر اثنان من مهندسي «شركة أشغال مياه بيروت»، وهما «و. ج. ماكسويل» و«هـ. ج. هاكسلي»، واثنان من أصدقائهما، ومن بينهما القس «دانيال بلس» مدير الكلية الإنجيلية السورية آنذاك، (الجامعة الأميركية في بيروت اليوم)، عام 1873، استكشاف نبع نهر الكلب، وهو النبع الذي يُغذّي بيروت بمياه الشرب. فنظّم الفريق رحلتين استكشافيتين داخل المغارة، وتوغل فيها حتى مسافة نحو 800 متر، وفي العام التالي بلغوا مسافة 1060 متراً.
وتوالت الرحلات الاستكشافية داخل المغارة ابتداءً من عام 1892 بهدف التعرف على شبكة الأنفاق الجوفية بشكل أفضل وأدق، بحيث بلغ طول الأنفاق التي أمكن استكشافها حتى عام 1940 ما يناهز 1750 متراً. وكان جميع الذين قاموا بهذه الاستكشافات في ذلك الوقت من الجنسيات الإنكليزية والأميركية والفرنسية.
المستكشفون اللبنانيون
غير ان مراحل استكشاف مغارة جعيتا شهدت تحولاً جذرياً بدءاً من أربعينيات القرن العشرين وحتى اليوم. فقد انتقلت الشعلة إلى أجيال من المستكشفين اللبنانيين، لا سيما أعضاء «النادي اللبناني للتنقيب عن المغاور» الذي أسسه عام 1951 المنقب اللبناني الأول ليونيل غرة. وقد درس المنقبون اللبنانيون منذ ذلك الحين، ومن خلال جمعياتهم المختلفة، الموقع دراسة تميزت بالانتظام والدقة والمنهجية، وأخذ عمق المغارتين المستكشفتين يزداد يوماً بعد آخر، حتى بات طول الدهاليز المكتشفة حالياً يصل إلى حدود 9 كيلومترات.
أسماء
وعلى غرار ما كان يفعله وما زال يفعله الكثير من المستكشفين في العالم، سمى أعضاء الفريق احد الصواعد العملاقة، ويقع على بعد نحو 625 متراً من مدخل المغارة «عمود ماكسويل» على اسم رئيس الفريق. وفي موضع يقع على بعد نحو 200 متر من الاول، اطلقوا عليه اسم «مجمع الآلهة».
وعلى بعد 600 متر من المدخل الرئيسي للمغارة السفلى، يظهر عمود كلسي داخل صالة «بانتيون» يرتفع ستة أمتار وسط المياه، وقد اكتشفه فريق «ماكسويل» في العام نفسه حيث وضع دانيال بليس قارورة زجاجية على قمته، وفي داخلها ورقة كتب عليها أسماء أعضاء الفريق الأربعة وأهم تفاصيل رحلة الاستكشاف التي قاموا بها.
أما العمود الثالث في المغارة السفلى، فهو «كروسادر كولومن»، المنتصب على بعد 800 متر، يستقبل الزوار عند مدخل صالة «الكاوس» أو صالة الفوضى الكبيرة التي شكّلت مركزاً لاستكشافات عديدة قبل الأربعينيات. وقد أطلقت عليه هذه التسمية فرقة الكشافة من الأطباء الفرنسييين «لو كلان دي كروازيه»، ويبلغ ارتفاعه عشرين متراً.
أما التشكيل الكلسي الرابع، فهو موجود داخل مغارة «طومسون»، على مسافة ألفي متر من مدخلها، وهو على شكل نسر «ذا أوبيليكس ستالاغميت»، ويرتفع 15 متراً، وقد أطلقت عليه هذه التسمية بعثة «وارد وطومسون» عام 1927، ويبعد عن المجرى المائي نحو ثلاثين متراً.
صالة الدوم المقببة السقف، احتضنت داخلها عدداً ملحوظاً من الصواعد والهوابط التي التقت مع بعضها لتشكل أعمدة ضخمة في كثير من الأماكن، وهذه الأشكال تبرز بأقطار مختلفة، لكن ارتفاعها لا يقل عن 15 متراً. وقد أطلق النادي اللبناني للتنقيب في المغاور تسمية «جيانت ستالاغميت أند كولومن سال دو دوم» على هذه الصالة عام 1950.
وبعد التوغل مسافة 3300 متر داخل المغارة، تبرز مجموعة عملاقة أخرى من الصواعد والأعمدة أسماها الفريق اللبناني «قصر ألف ليلة وليلة»، وهو بارتفاع يفوق 15 متراً ويلامس بعضها السقف أحياناً.
في العام 1963 اكتشف سامي كركبي، مع فريق من المستغورين اللبنانيين، صالة بيضاء ناصعة كالثلج، التقط لها صوراً عديدة، ولكن الوصول إليها من جديد لم يكن بالأمر السهل. لذلك لم تحدد أو ترسم على الخريطة قبل عام 2005.
وبعد انتهاء الحرب اللبنانية في العام 1990، ذكّر كركبي أعضاء النادي بضرورة العودة لإستكشاف هذه الصالة. ثم كانت المحاولة الثانية في العام 2005، ولكن في هذه المرة، تقرر النزول إلى الصالة من المجرى الرئيسي في داريا.
وبعد أن تسلق الفريق نحو 80 متراً انطلاقا من صالة الدوم، وصل إلى باب الصالة مستطيل الشكل، الذي يبعد نحو أربعة كيلومترات عن المدخل الرئيسي للمغارة.
وأعاد النادي اللبناني للاستغوار عام 2007 استكشاف الصالة الحمراء والبيضاء في المغارة المتواجدة عند الضفة الشمالية للنهر الجوفي، والتي كانت قد استكشفت للمرة الأولى عام 1954، واطلقت عليها هذه التسمية نظراً لاحتوائها على تشكلات حمراء اللون مكونة من رواسب الطين ومعادن أخرى، إضافة إلى تشكلات كلسية بيضاء. وهي عريضة القطر وتملؤها البرك المائية الصغيرة الحمراء التي لا يزيد عمقها عن 30 سنتمتراً. وتمتد على طول 140 متراً، وتنقسم إلى قسمين منفصلين لا يلتقيان، الأول بطول 60 متراً، والثاني بطول 80 متراً، ويميّز مدخله تدفق كلسي تبرز منه تشكلات غنية ومنوعة وينتهي ببركة كبيرة مغمورة بالمياه.
أما "صالة بعينو"، فقد اكتشفها المستغور اللبناني فادي بعينو وحددها على خريطة المغارة. ثم أعاد النادي اللبناني للتنقيب في المغاور عملية الاستكشاف، وأضاف إلى هذه المساحة المدونة على الخريطة 500 متر إضافية اكتشفت في هذا المكان المؤلف من دهاليز عديدة مزينة بالصواعد والهوابط. ويمكن الوصول إلى «صالة بعينو»، التي تمتد فوق الممر الرئيس للمغارة، بالتسلق نحو 30 متراً من بولفار النادي اللبناني للتنقيب في المغاور.
استثمارها
اكتشف القسم العلوي من المغارة عام 1958 على يد فريق النادي اللبناني للتنقيب في المغاور. وأبصر مشروع تجهيزها النور عام 1963، ونفذت عملية المسح لتحديد مدخل النفق المؤدي إلى الصالات العليا. وصمم المهندس اللبناني غسان كلينك بالتعاون مع سامي كركبي، الطريق داخل المغارة، ونفذ التمديدات الكهربائية الداخلية والإضاءة المهندس الكهربائي خليل غانوني. وبهدف حماية هذه الجوهرة الفريدة في الشرق الأوسط، صودر نحو 160 ألف متر مربع من الأراضي المطلة عليها، والتي تعود ملكيتها إلى آل صفير (استردوا قسما منها عام 2007)، آل طعمة والآباء البوليسيين.
تتضمن الصالة العليا للمغارة جزءاً سفلياً يمتد على مسافة 98 متراً (يشكل مخرج النفق الحالي) وجزءاً علوياً يمتد على مسافة 161 متراً. وقد تضمن المشروع الرئيسي لتجهيزها إنشاء نفقين: الأول في القسم العلوي ليكون نقطة انطلاق للزيارة السياحية ويمتد على مسافة 116 متراً، والثاني يمتد على مسافة 120 متراً، وهو مخصص للخروج من المغارة.
أما الزيارة السياحية للمغارة، فتشمل مسافة 900 متر، وهي تتيح للزائر اكتشاف مناطق جديدة غنية بالترسبات الكلسية. ولأسباب عملية واقتصادية، تقرر في ذلك الوقت إنشاء النفق المخصص لخروج الزوار كمرحلة أولى، على أن يُنشأ النفق الثاني عام 1975، لكن الحرب حالت دون تنفيذ هذا المشروع. وفي تموز عام 1975 قررت بلدية جعيتا، بالإتفاق مع العاملين في المغارة ومستكشفي المغاور، إنشاء حائط لسد مداخل المغارة العليا والسفلى بهدف حمايتها. وعام 1981، أعيد فتحها لتعود وتغلق مجدداً عام 1982 إثر الاجتياح «الإسرائيلي». وبعد تعرّض بعض منشآتها الخارجية للدمار والقصف والبعض الآخر للسرقة، لزّمت مغارة جعيتا إلى شركة «ماباس الألمانية» عام 1995.
اكتشافات جديدة
عام 2004، وبمبادرة فردية، قرر ثلاثة غطاسين لبنانيين محترفين هم: جو خوري، جوزيف شربين وحبيب حداد، الغوص في مياه المغارة السفلى لاستكشاف ما تحتضنه من أسرار وروائع تكونت على مرّ العصور، فسجلت محاولات خجولة أوقفتها الظروف الأمنية الصعبة التي شهدها لبنان عام 2005. ثم عادت لتنطلق من جديد، وكانت أولى ثمارها اكتشاف مجرى مائي جديد يغذي مياه المغارة بنسبة 14 % ولكنه مجهول المصدر حتى الساعة.
كما اكتشف الغطاسون الثلاثة، تكونات على جدران الممرات المائية تشبه بطبيعتها تلك التكونات الموجودة في المغارة الجافة، ما يعزز فرضية وجود مغارة أخرى جافة.
وخلال أيلول المنصرم، أعلنت «ماباس» عن اكتشاف مساحة بطول 250 متراً وعمق 35 متراً، ويبعد هذا المجرى عن الشاطىء البحري 560 متراً، ولا يشكل هذا المجرى المائي الجديد مغارة جعيتا جديدة، بل تمتدّ تحت ست بلدات في المنطقة، وهي: جعيتا، وعين الريحانة، ونيو سهيلة، وسهيلة، وبلونة وداريا، لن تستعمل للسياحة بل فقط لأهداف علمية نظراً لخطورتها.
المغارة الاكبر في لبنان
تعتبر مغارة جعيتا، بمساحتها الممتدة على طول 12 كيلومتراً الأكبر في لبنان، ولكن ثمة مغاور أخرى لا تقل أهمية عنها كمغارة الكسارات الرائعة، والمهددة بالزوال بسبب الإهمال البيئي اللاحق بها وعمل الكسارات المحيطة بها والذي لا يراعي أي شروط لحمايتها والحفاظ عليها. مع الإشارة إلى وجود خمس مغاور سياحية في لبنان، وهي: مغارة قاديشا، عين وزين، كفرحيم، الريحان وجعيتا. ويبلغ عدد المغاور في لبنان نحو 700 مغارة.
وتعتبر مغارة جعيتا معلما أساسيا لعلم المغاور في الشرق الأوسط منذ عام 1881. وهي من أجمل المغاور وأكبرها، حيث يوجد فيها أكبر التشكّلات من ناحية البرك والصواعد والهوابط، وفيها أكبر لؤلؤتين «لؤلؤة المغارة» بحجم عشرين سنتمتراً الواحدة.
جعيتا والطقوس الفينيقية
وفي دراسة أعدّها المحامي والمؤرخ عبد اللطيف فاخوري، اعتبر أن التصويت لمغارة جعيتا في مسابقة عجائب الدنيا الطبيعية السبع ليس لاعتبارها عجيبة طبيعية فحسب، بل بالنظر إلى قيمتها الانسانية والثقافية، وإلى ما شهدته من طقوس فينيقية فولكلورية داخل المغارة وخارجها.
ويقول فاخوري في دراسته: «لمغارة جعيتا تاريخ طويل طالما بحث فيه المؤرخون والباحثون من دون الاهتداء إلى حقيقته. فهي تقع في المنطقة الجبلية القريبة من الساحل، والتي كان يقيم فيها الفينيقيون سكان لبنان القدماء. ولا بد أن يكون هناك سرّ مجهول، من الوجهة الدينية، أو أسطورة من حيث موقع هذه المغارة ونبع الماء عندها والحجرين اللذين يسميهما سكان المنطقة الحاليين بـ«كرسي الملك» و«كرسي الملكة»، وربما كان الفينيقيون يقيمون هناك حفلات لآلهتهم ويقدمون لها الذبائح أمام المياه المتدفقة الهادرة، علماً بأن لفظة جعيتا وفقاً لأنيس فريحة تعني هدير الماء والضجيج والجلبة الصارخة».
ويتابع فاخوري: «فالأسطورة (هي أصل لفظة تاريخ في اللاتينية) ليست من الخيال، ولكنها تعبر عن وقائع مادية ارتبطت بظواهر طبيعية، ثم تعرضت خلال رحلتها الطويلة التي تقطعها في الزمن، إلى الكثير من الحذف والإضافة والتغيير والتبديل.
ومن هنا تشكل أقوال السكان عن مغارة جعيتا أحد محتويات المخزون الثقافي المتناقل شفاهة عبر العصور والأجيال، واعتبارها مادة يقتضي فكّ رموزها وإزالة طبقات من الركام والأتربة عنها، وتفكيك سرّها لاسترداد الرموز أو «التيمة» الأساسية. والانسجام والارتباط قديمان بين أماكن العبادة والنبع المقدس أو النهر المقدس حيث يجلب الماء الخصب والحياة إلى ما حوله من بساتين وقرى على غرار معبد أشمون الذي بني قرب نهر الأولي. وكان دور أشمون معروف في مجمع آلهة بيروت وفي المستعمرات الفينيقية».
ويقول فاخوري: «لعل الكرسيين الحجريين كانا رمزين لإله السماء وأخته إلهة الأرض. ففكرة ازدواج الإله على شاكلة الناس أي رجل وامرأة، كانت شائعة، ولم تكن آلهة العالم القديم فوق مستوى البشر، بل كانت تشبه الإنسان الذي كان في إمكانه أن يقف أمامها ويخاطبها ويخصص لها مكاناً قرب مسكنه، قد يكون مصطبة أو هيكلاً أو مغارة أو شجرة أو غابة، وأن يكرمها بالعطايا والنذور والأناشيد. فالرجل هو البعل والمرأة هي إلهة الحب والخصب. والكرسيان الحجريان هما: كرسي لأدونيس (الملك)، وكرسي لعشيقته عشتار (الملكة) وهي عشتروت، وكانت عبادة عشتار تتخذ شكل حجر. فقد وجدت على نقود اكتشفت في صيدا عربة عليها عرش عشتار الذي يحتل كرسيه حجر. واحتفظت الشعوب بأحجار اعتبرت مقدسة لأنها مسكن الإله أو زعموا أنها نيازك. يذكر فيلو الجبيلي، أن حجراً سقط من السماء عثرت عليه عشتار وجعلته محلاً للقداسة. وأدونيس هو تموز أي إله سومري اسمه جملة سومرية معناها (الإبن المخلص للماء العميق) وشخصية أدونيس تعتبر روح الزرع، وروح الزرع هي الماء، أي نهر الكلب عند جعيتا".
ويضيف فاخوري: «الماء هو أحد العناصر الأربعة، ويعتبر مع النار والهواء والتراب، أصل المخلوقات سواء أكان عذباً أو ملحاً أجاجاً، نهراً أو بحراً، نزل من السماء أو تفجر من الأرض. فمن الطبيعي أن يكون موضوعاً للحكايات والأساطير والطقوس والعبادات والشعائر. ولذلك قدست الشعوب البدائية المياه والينابيع والآبار، وأقاموا عندها أصنامهم. كما أقاموا حول الينابيع احتفالات آلهة المياه التي عرفت بالميوماسية Maioumas. ولم تصلنا الاحتفالات الفولكلورية التي كانت تجري عند مغارة جعيتا وما كان يصاحبها من موسيقى ورقص. ومع أن الذاكرة الشعبية الجماعية هي مخزون يسير مع الزمن، تسقط منه بعض الـ "موتيفات"، وتزاد عليه ممارسات. إلا أن بعض الرواسب تبقى محفوظة تحت طبقات من العصور. وتدين الحفريات الأثرية باكتشافاتها للحكايات الشعبية وما روي حولها من خرافات وأساطير. ومن هنا يمكن إعادة تركيب ما افتقدناه من الطقوس والشعائر الفينيقية.
فالتراث القديم بقي إلى زمن طويل، وإلى ما قبل قرن تقريباً، محفوظاً في صدور الحفظة من حكواتيين وشعراء ومداحين وقوّالة ورواة سير. وفيلو الجبيلي هو أحد أهم مصادر الميثولوجيا والأساطير الفينيقية بل السامية عموماً. وقد كرس حياته لإثبات التراث الفينيقي الكنعاني الذي نشرته شعوب البحر في العالم القديم. ويرجح البعض أن أعماله مأخوذة من كاتب فينيقي سابق عليه بأربعة قرون هو (سنكن يتن). وقد ظلت الميثولوجيا الفينيقية مستغلقة، حتى جاءت الحفريات في جبيل ورأس شمرا (أوغاريت) وإيبلا».
جعيتا عجيبة
وإذ كانت جعيتا قد مكّنت لبنان من الفوز بجائزة «القمة السياحية» للعام 2002، فإنها اليوم تحديداً، تخوض معركة شرسة إلى جانب 28 موقعاً سياحياً عالمياً لاختيار عجائب الدنيا الطبيعية السبع، وربما بقي على انتهاء التصويت أقل من 24 ساعة، ما يحتّم على اللبنانيين جميعاً من دون أي استثناء، تكثيف التصويت لمغارتهم، لبلدهم، لتراثهم، لتاريخهم الممتد إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي، أمام اللبنانيين اليوم تحديداً فرصة ذهبية يعلنون فيها صدق ولائهم الجماعي لوطنهم، يعلنون فيها وحدتهم ووحدة رؤيتهم وهدفهم، أمام اللبنانيين اليوم معركة حاسمة، عنوانها أكون أو لا أكون، وليبتعد المتفلسفون قليلاً، ليوم واحدٍ فقط، لأربع وعشرين ساعةٍ فقط عن هذه المعركة، وليؤجلوا تذمرهم اللامنطقي، وامتعاضهم الاعتراضي، وشكواهم التي في غير مكانها ولا توقيتها، وأن ينضمّوا إلى قافلة التصويت ويزرعوا حجراً في مدماك الفوز، أو يوقفوا التحريض غير المنطقي بتاتاً وبذلك يساهمون في الفوز أيضاً، وما إن تفوز جعيتا في مباراة العجائب، فليلاحقوا الشركة المستثمرة، ووزارة السياحة، ومجلس الوزراء، وكل من هو معني في استثمار المغارة وتطوير هذا الاستثمار، وكبح الفساد المزعوم، وما إلى ذلك من الادعاءات التي ربما يكون بعضها صحيحاً وتجب معالجته.
اليوم، هو يوم التحدي الأكبر للبنانيين، والمطلوب تكثيف التصويت، وتحفيز الأصدقاء والأبناء، والأقارب، وكل من هو حولنا من أجل التصويت لجعيتا.
هي تنادينا اليوم، أن نغض الطرف عن كل ما يعيق فوزها، وأن نركز فقط على هذا الفوز الثمين الذي بات قاب ساعات أو أدنى، "فإما نكون... أو لا نكون".