أصلاً لم يرتفع هذا الجدار بين الفريقين... «مجرّد غيمة صيف سرعان ما عبرت»، لتترك الفضاء فسيحاً في سماء المختارة و«رفاق الأمس».
لم يصدق «الرباعي المتمرّد» مروان حمادة وفؤاد السعد وهنري حلو وأنطوان سعد، أن وليد جنبلاط أرسل أكثر من إشارة تودد تعبّر عن رغبته بإعادة لحم أساسات كتلته النيابية لكي تستيعد وحدتها... حتى التقطوها بسرعة البرق. يدرك هؤلاء شروط السباحة بين «التموجات الجنبلاطية»، ويحفظون ثناياها عن ظهر قلب. يعرفون جيداً أن «سيّد المختارة» لن يحرق ورقتهم بالكامل. لا بدّ أن يسحبها يوماً من «قبعته»، ليستعين بـ«أرنبها» في لحظة المساومات والمفاوضات... عندما يحين موعدها.
تلك الاعتبارات وغيرها تفسّر السكينة التي سادت العلاقة بين الفريقين طوال حقبة المقاطعة. كلمات معدودة لفظها رئيس «جبهة النضال الوطني» بحق من خرج من تحت جناحيه لحظة خروجه من القصر الرئاسي بعدما وضع صوته في جيب نجيب ميقاتي. ليطوي من بعدها صفحة التوتر، ويرسي الهدوء. هؤلاء أيضاً حرصوا على عدم استفزاز «البيك»، ساروا جانب الحائط، واحتموا بالصمت، والانغلاق على أنفســهم ضمن «اللقاء الديموقراطي»... إلى أن استدعاهم «أبو تيمور» إلى مائدة مروان حمادة.
في تلك الليلة، لم يجد العتب مكاناً على الطاولة. المناسبات الاجتماعية التي جمعت الفريقين منذ لحظة فراقهما، كانت كافية لإذابة الجدار الجليدي، والبقية تأتي، في انتظار الخطوة الثانية والأخيرة التي يفترض أن «البيك» سيعطي إشارتها، لدمج «اللقاء الديموقراطي» بـ«جبهة النضال الوطني».
بين موعدي الفراق والتلاقي، طلعات ونزلات جنبلاطية، خففت من اندفاعة الثاني من آب، والتموضع الجديد ضمن الأكثرية النيابية الجديدة التي عرّت حليفه سعد الحريري من ثوب الرئاسة الثالثة. من هذه الزاوية بالذات، يُقرأ انفتاح «البيك» على من عصا أوامره وانتفض على خياره الميقاتي، وربما بالتنسيق معه من تحت الطاولة!
ثمة عدة في جعبة كل منهما للعودة في التوقيت المناسب: «البيك» ـ برأي «اللقاء» ـ كان محرجاً بتموضعه، هو أصلاً لم يكن مقتنعاً بما قام به إلا من باب انعدام الخيارات، ولذا كان من الطبيعي أن يتفهّم الخطوة التي أقدم عليها النواب الأربعة، كما استوعب هؤلاء الظروف التي دفعت «أبو تيمور» إلى مجاراة من كانوا في صف الخصومة: لم يكن بإمكانه أن يعبر شريط الضغط الأمني والسياسي الشائك الذي تعرّض له عشية تسمية نجيب ميقاتي. «يومها أبلغنا بالحرف الواحد أنه مهدد بالسياسة وبجسده»، تاركاً لنا حرّية الخيار...
فهم «الرباعي» معنى الرسالة الجنبلاطية وقتذاك وهو يتطلع اليوم، إلى النصف الملآن من الخطاب الجنبلاطي المستجد: «من يجلس مع وليد بيك» يشعر بقلّة انسجامه مع نفسه، هو لم يهضم يوماً السوريين ولا هم هضموه.
«النكعات الجنبلاطية» تجاه حلفائه الجدد موضع ترحيب من حمادة والبقية، كما الانشراح الجنبلاطي بالربيع العربي والدمشقي تحديداً. مرتاحون للـ«فيلتراج» الذي يجريه «الريس» لمواقفه الانقلابية، تخفيفاً من حدّتها، وإن كانوا متأكدين أن «أبا تيمور» ليس في وارد العودة إلى أحضان قوى الرابع عشر من آذار، أقله في القريب المنظور.
يكفي أن «البيك» يمثل الوسطية قولاً وفعلاً، بنكهة ولون، كي يتحمّس الرباعي المتفلت طوعاً من «قيوده التنظيمية»، للعودة إلى ظلال المختارة. لا يريدون أكثر من هذا «التنازل»، مع العلم أنهم لم يفرضوا عليه شروطاً للعودة إلى دياره، لا بل هم ليسوا من هذا الصنف ولا وليد جنبلاط من النوع الذي يقبل بأن توضع عليه شروط من رباعي أو ثنائي أو ثلاثي.
تجربة الأشهر الماضية، كشفت بنظرهم، أن ثمة مجموعة من المقاربات المشتركة التي بمقدورها ردم هوات التباعد: الكره المشترك للنظام السوري، التحسس غير العادي إزاء ميشال عون، رفض نظام الانتخاب النسبي... وغيرها من العناوين التي تجمع الفريقين في بيت نيابي وسياسي واحد.
هم اليوم أربعة نواب معارضين في بيت موالٍ. العودة إلى المختارة بالنسبة إليهم، تعني جلوس أربعة نواب من الخط الآذاري على طاولة الأكثرية. مشهد سوريالي يفيض بالتناقض، خاصة أن ثمة من يراهن هنا وهناك، على سقوط حتمي للنظام السوري، واذا حصل ذلك، فإن جنبلاط يعود عملياً الى «اللقاء الديموقراطي» وهي اللافتة التي استخدمها في ومن ثورة الأرز، أما اذا سقط الرهان على سقوط النظام في سوريا، فيصبح لزاماً على «الرباعي» أن يقدم الولاء والطاعة لسيد المختارة في انتظار الصفح الشامي الجديد. هذا التناقض لا يثير الاستغراب في نفوس «الأبناء الضالين» الأربعة، الذين يعرفون ماذا سيكون في انتظارهم في حال عودة المياه إلى مجاري ما قبل سقوط سعد الحريري.
حتى الآن، لم يبح جنبلاط بالكلمة الفصل، والنواب الأربعة لن يخاطروا بعرض فكرة معينة. يتركون اللعبة لسيدها. أحدهم يقول «قد نلتقي على طرح اتحادي، بمعنى أن يحافظ كل فريق على خصوصيته، ولكنه لن يكون بالتأكيد انصهارياً بمعنى ذوبان أحدهما بالآخر. وفي مطلق الأحوال: سنبقى إلى جانب «أبو تيمور»، قبل انتخابات 2013 وخلالها وبعدها!
لا تخيفهم انتقادات حلفاء «البيك» الجدد، في حال قرر تمتين أسس كتلته النيابية، علماً بأنهم مطمئنون لهذا المسار، ويعتبرون أن ثمة متضرراً وحيداً من هذا الدمج: العماد ميشال عون الذي سيخفض من منسوب حماسته لنسج تحالف انتخابي مع سيّد المختارة. عودة «اللقاء الديموقراطي» بحلته القديمة الفضفاضة قد تعني إصرار «البيك» على جعل النواب الثلاثة المسيحيين (سعد وسعد وحلو) يصعدون مجدداً إلى محدلته، إلى جانب «رفيق الدرب» مروان حمادة، لا سيما إذا سارت رياح قانون الانتخابات وفق ما تشتهيه سفنه، وأسقطت النظام النسبي من حمولتها...
من يشاهد الصبحيات والولائم الشبه يومية بين أعضاء اللقاء و«جبهة النضال» يشعر أن ثمة توزيع أدوار.. والعبرة أولا وأخيراً بما سيؤول اليه الوضع السوري.. وهو أمر لن يكون قريباً.. لذلك سيبقى حابل الانفصال الشكلي قائماً حتى إشعار آخر.