استدعت موافقة لبنان الرسمية بأن يكون عضواً غير دائم في مجلس الأمن الدولي قبل عامين حماسة من البعض واستدعاء هواجس لدى البعض الآخر من أهل الطبقة السياسية ولعل النائب وليد جنبلاط كان الأجرأ في التعبير عنها بمجاهرته أنه من المفضل ان يرفض لبنان هذا الموقع بسبب الحرج الذي سيجلبه اليه وظهوره بمظهر الدولة المنقسمة على ذاتها إزاء ملفات رئيسية وسط صراعات المنطقة التاريخية المستعصية على الحلول بدءاً بفلسطين وصولاً الى ايران وملفها النووي.
لكن لبنان قبل التحدي مرة جديدة بعد ان كان عضواً غير دائم في مجلس الامن الدولي في العامين 1953 و1954، علماً بان فرصته للعودة الى هذا المنبر الدولي لن تتكرر قبل 44 عاماً.
دينامية في الحراك الدبلوماسي
سجل لبنان دينامية اتسم بها عمل بعثته الدائمة في نيويورك من حيث العمل كخلية نحل متعاونة. فقد كان الدبلوماسيون اللبنانيون يسهرون لساعات طويلة متابعين الأوضاع الدولية المتفجرة من قارة الى أخرى، مرسلين تقاريرهم اليومية الى وزارة الخارجية والمغتربين بإدارة «أوركسترالية» من السفير نواف سلام رئيس مجلس الأمن الدولي لمرتين متتاليتين.
وقد عبّر أكثر من دبلوماسي غربي في أحاديثه عن إعجابه بالدينامية اللبنانية ومشاركتها الفعالة في مختلف الأنشطة والقرارات المعروضة للبحث، خصوصاً إبان تقديم الرئيس الفلسطيني محمود عباس لطلب عضوية فلسطين في الأمم المتحدة في شهر ايلول الفائت. فما إن أنهى عباس خطابه معلناً عن تقديم طلب العضوية عبر مجلس الأمن الدولي، حتى حوله نواف سلام بسرعة قياسية الى أمين عام المنظمة الدولية بان كي مون الذي عرضه بدوره على اللجان المختصة، ولا أحد ممن حضر دورة الجمعية العمومية في ايلول الماضي ينسى مشهد سلام وهو يبكي بحرارة عندما ضجت قاعة الجمعية العامة بالتصفيق لمحمود عباس.
لكن كما ذهبت الجهود اللبنانية سدى بسبب الحواجز التي وضعتها الولايات المتحدة أمام هذا القرار تبددت ايضاً في محاولة إمرار مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي يدين المستوطنات الإسرائيلية ويصفها بأنها «غير مشروعة»، بسبب إستخدام الولايات المتحدة حق النقض («الفيتو»)، إلا انه يسجل للبعثة اللبنانية تحولها الى «لوبي» حقيقي عندما جمعت 120 دولة شكلت راعياً لهذا المشروع.
ولامس لبنان «النصر الدبلوماسي» عندما أحبط بياناً لمجلس الأمن الدولي يدين «الهجوم الإرهابي في جنوب إسرائيل» والذي أسفر عن مقتل 8 إسرائيليين وعشرات الجرحى في آب 2011، وطالب لبنان بإدخال تعديلات على البيان الرئاسي الذي اقترحته الولايات المتحدة آنذاك مطالباً تضمينه انتقادات لبنان «للتصعيد في القصف الإسرائيلي على قطاع غزة». وبناء على موقف لبنان، آثرت إسرائيل التخلي عن البيان الرئاسي عوض الإلتزام بالطلب اللبناني علماً بأن إصدار بيان رئاسي في مجلس الأمن يتطلب إجماع جميع أعضاء المجلس الـ15.
وعند وقوع الاعتداء الأسرائيلي على سفينة «مرمرة» التركية، دعا لبنان الى جلسة لإدانة الاعتداء على السفينة التركية، فصدر بيان رئاسي أدان الحادثة. ورفض لبنان طلب بضع دول غربية إدانة حادثة العيادة الشهيرة التي هاجمت فيها نسوة من «حزب الله» محققين في المحكمة الدولية زاروا عيادة الطبيبة إيمان شرارة عند مشارف الضاحية الجنوبية طالبين معلومات اعتبرت «حساسة للغاية».
مع إطلالة ما يسمى بـ«الربيع العربي»، بدا أن طرح قضية الحظر الجوي على ليبيا من المواضيع القليلة التي أحدثت إجماعاً لبنانياً داخلياً، كذلك حصل تأييد لبناني لمشروع قرار يؤيد المبادرة الخليجية كحل لمسألة اليمن، ما لم تطرح القضيتان التونسية والمصرية على جدول أعمال المجلس نظراً إلى سرعة سقوط زين العابدين بن علي وحسني مبارك.
مواقف مثيرة للجدل
بعض الوقفات اللبنانية في مجلس الأمن لم تتجنب الجدل الداخلي ووصلت أصداء البلبلة في البيت السياسي اللبناني المنقسم حيال قضايا أساسية دولياً الى أروقة مجلس الأمن، لكنها لم تضر بصورة لبنان بسبب القدرة الاستيعابية التي ابداها دبلوماسيو البعثة اللبنانية وقدرتهم على امتصاص الصدمات.
عندما طرح موضوع التصويت على القرار الرقم 1929 الذي قضى بتشديد العقوبات على إيران، امتنع لبنان عن التصويت، وقد اتخذ القرار بعد شدّ حبال قوي بين وزارة الخارجية اللبنانية ورئاسة الحكومة برئاسة سعد الحريري ورئاسة الجمهورية. إمتنع نواف سلام عن التصويت، فصفق له قسم من اللبنانيين وانتقده قسم آخر وفي النهاية لم يلهب موقف لبنان الدول الأعضاء في المجلس لا تأييداً ولا شجباً بل عبر هؤلاء عن استيعابهم لخصوصية الداخل اللبناني ونجا لبنان من تهديدات بعقوبات إقتصادية لوحت بها خصوصاً الولايات المتحدة. كذلك كرر لبنان موقف الإمتناع في قرار ثان لتشكيل لجنة عقوبات على إيران.
في هذا الإطار، يؤكد رئيس البعثة اللبنانية الى الأمم المتحدة السفير نواف سلام لـ«السفير» حصول «ضغوط من الدول الغربية على لبنان قبل التصويت في الموضوع الإيراني»، لافتا الانتباه الى أن هذا التصويت عكس المصلحة الوطنية والمزاج العربي السائد وقتها والأقرب الى الامتناع منه الى السير في العقوبات او التصويت ضد فرضها على ايران».
مواكبة الداخل اللبناني لعمل بعثة لبنان الدائمة في مجلس الأمن تميزت بالارتباك في اكثر من محطة وكان يتوجب على نواف سلام استيعاب هذا التردد والانقسام والابتعاد قدر المستطاع عن تظهيره في المجتمع الدولي، يقول في معرض التقييم «حاولنا عزل انفسنا عن الانقسام اللبناني الداخلي فلا نظهر منقسمين في مجلس الأمن إزاء المسائل الخلافية الداخلية، وأستطيع القول إننا تمكنا من الحفاظ على صورة لبنان الموحدة».
ومن الأمثلة التي يوردها سلام عن الانقسام حوادث شاطئ العاج حيث حضر لبنان الرسمي حفل تنصيب الرئيس غباغبو المخلوع لاحقا في ما عاد واعترف بالحسن واتارا رئيساً منتخباً شرعياً لشاطئ العاج في الأمم المتحدة، علما أن المقربين من وزير الخارجية السابق علي الشامي قالوا في حينه إن «ما كان يحدث في الأروقة الدبلوماسية مختلف تماما عما كان يدور في الشوارع العاجية. وقد شكل هذان القراران مظلة حماية للجالية اللبنانية من جهة وللإجماع الدولي من جهة ثانية».
الملف السوري
آخر عنقود الملفات الشائكة التي واجهها لبنان في مجلس الأمن الدولي تمثل بالملف السوري حيث برز استحقاقان استخدم فيهما لبنان موقفي النأي بالنفس والامتناع.
نأى لبنان بنفسه عن مشروع البيان الرئاسي الشاجب للعنف في سوريا، وصوت بالإمتناع على مشروع القرار الأوروبي في تشرين الأول الماضي الذي أدان دمشق انسجاما مع فكرة النأي بالنفس، «حفاظا على وحدة لبنان واستقراره. نحن نمتنع لان البلد منقسم حول هذا الموضوع وبالتالي فإن الإمتناع ليس موقفا معيبا كما حاول البعض تصويره»، يقول نواف سلام، ويضيف في حديثه مع «السفير»: «كنت من أنصار النأي بالنفس ومن أنصار الامتناع عندما وضعت روسيا والصين «فيتو» على اي قرار يدين سوريا».
وعما اذا كان ذلك قد شكل نقطة ضعف للبنان، يقول سلام: «لبنان لم يمتنع وحده بل امتنعت دول اخرى منها البرازيل وجنوب افريقيا والهند وهذه الدول الثلاث تطمح لعضوية دائمة في مجلس الأمن». يضيف: «الامتناع هو سياسة شبيهة بأي سياسة ثانية. روسيا والصين امتنعتا عن التصويت على القرار المتعلق بليبيا في ما يخص الحظر الجوي فهل يمكن القول إن هذه الدول لا رأي لها»؟.
وماذا راكم لبنان في هاتين السنتين في موقعه بين الدول؟ يقول سلام: «كانت النظرة الدولية الى لبنان أنّه بلد منقسم على ذاته نتيجة للحرب الاهلية التي مر بها، وساحة للحروب بين اسرائيل والعراق وسوريا وإيران، ومأوى لمنظمات إرهابية تحصل فيه عمليات خطف، المكسب الاساس الذي حققه لبنان هو ظهوره كدولة فعلية لديها سياسة خارجية وشريك في صناعة القرار الدولي».