ليلة لكل شيء. للماضي وللحاضر وللمستقبل الممتد على إثني عشر شهراً مقبلاً. أمنيات، ورقص، وابتهاج، وصخب، ومأكولات ومشروبات لليلة واحدة. ليلة لترتيب أجندة عام كامل، وتصنيف أحلام يراد لها أن تستحيل واقعاً في مسرح العام 2012. أحلامٌ، لا تقتصر على حدود هذا البلد الذي لم يقترب من الثورات، لا من قريب ولا من بعيد، في قلب ربيع يعرفه الوطن العربي، مرفقاً بحروب وثورات ومخاوف واعتصامات وانتخابات، في مصر وتونس واليمن والبحرين وسوريا وليبيا.
يتضخم الحلم إذاً، فمنى، الطالبة الجامعية، تقول «لا أطلب الكثير لنفسي من العام الجديد.. أطلب لجميعنا، أطلب لعالم عربي مفتوح على كل شيء، يولد من جديد».
لا تفكر منى بالاحتفالات العارمة في ليلة رأس السنة، إذ ستستمتع الفتاة بعشاء منزلي مع العائلة، من دون أن تولي اهتماماً كبيراً لبازار العروضات المفتوح، الذي انطلق قبل شهر كامل من الليلة الموعودة.
نجوم وأسعار
تبرمج المطاعم والمقاهي سهرات لكل طبقات المجتمع، تتراوح أسعارها تبعاً للمكان والبرنامج الفني، وإن كانت تتحول أكثر فأكثر إلى مساحة للمبالغة والمزايدة، التي يحبها جزء يسير من اللبنانيين، علماً أن سهرة هذا العام تقدم مروحة واسعة من السهرات الفنية لمطربين لبنانيين وعرب، وجدوا مرتعهم في لبنان، في ظل الأوضاع السياسية والأمنية في عدد من البلدان العربية.
وجمعت بعض السهرات فنانين يصنفون «من الصف الأول» في حفل واحد، كحفلة واحدة لكاظم الساهر ويارا خوري ومروان خوري، وحفلة نجوى كرم وعاصي الحلاني وفارس كرم، بالإضافة إلى الحفلة الأشهر لهيفاء وهبي وراغب علامة.. وغيرها. وتفسح الحفلات الباقية الحيز الأكبر لموسيقى متنوعة ينسقها موزع للأغاني، ربما يكون أكثر متعة وأقل تكلفة.
الكلام عن برامج السهر في لبنان لا يحمل معه أي جديد، حتى في الأسعار التي ترتفع كالأسهم النارية، لدرجة تدفع الأغلبية الساحقة من اللبنانيين إلى تكرار سؤال واحد: من ذا الذي يستطيع دفع ستمئة دولار أميركي للشخص الواحد مقابل سهرة فنية؟
الرقم الذي يتخطى الحد الأدنى للأجور في لبنان، ليس الأعلى بين أسعار جنونية وصلت إلى ألف ومئة دولار أميركي للشخص الواحد. الرقم، على «جنونه»، لم يعد مفاجئاً جداً بالنسبة إلى كثيرين باتوا يدركون أن تلك الليلة باتت تستقطب سائحين نخبويين من دول الخليج والعالم العربي، بالإضافة الى ساهري الطبقات الغنية في لبنان. لا يمنع ذلك من التساؤل عن أولئك الذين يدفعون ثمن بطاقات ترتفع أسعارها من 450، إلى 650، و850 وصولا إلى 950 دولارا للسهرات مع فنانين وعشاء. «من يكون هؤلاء؟ هل ينتمون إلى أغلبية الشعب اللبناني الذي يعاني من ضائقة مالية حادة؟ هل هم بشر يشبهوننا؟»، يسأل المعلم سامي الذي يعمل في فرن صغير لصناعة الكعك في منطقة الأشرفية. يقول الرجل إن «المتعة التي قد يعيشها أي ساهر في هذه الحفلة لا تساوي ابتسامتي محاطا بعائلتي في هذه الليلة المجيدة، وليتذكر كل ساهر أن ثمن بطاقته يشتري طعاما لشهر كامل لأكثر من عائلة واحدة. فليتذكر، وليستمتع وليصلِّ لبلد لا ينجح في رفع الحد الأدنى لأجور موظفيه».
من 80 دولاراً إلى الشارع
من لا يختر مطعماً أو مقهى ليلياً من ضمن لائحة الأماكن الأشهر في العاصمة، يبحث عن الأماكن ذات التكلفة المتوسطة، والتي تتراوح بين 80 و150 دولاراً أميركياً للشخص الواحد، وقد تقل تدريجياً كلما ابتعد الساهر عن بيروت.
وبين الخيارين، وجد كثر أنفسهم بلا سهرة «رسمية» أو «بيتية»، فقرروا احتلال الشوارع على طريقتهم، لإحياء الليلة بأقل تكلفة وتكلّف ممكنين.
بعضهم يخطط ليتنقل سيراً على الأقدام بين الشوارع المحتشدة بالسهارى من الجميزة ومونو وصولاً إلى ساحة الشهداء في وسط بيروت، فساحة النجمة حيث ينتظرون المفرقعات الليلية التي تملأ سماء العاصمة عند منتصف الليل، والتي ترتفع من كل حدب وصوب، لا سيما من مجمع «البيال» الشهير، فتنير سماء بيروت، لدقائق طويلة وبأشكال وألوان مختلفة.
تبقى المبادرة باتجاه سهرات الشارع هذه، عفوية ومن دون أي دعوة رسمية أو حصرية، ولا تتضمن أي برنامج فني، بل تقتصر على التقاط الصور أمام أشجار الميلاد أين ما وجدت، كتلك العملاقة في ساحة الشهداء، والشجرة الملونة ذات التصميم الفني المتميز في أسواق بيروت، والشجرة التقليدية الموجودة في شوارع الحمرا، الأشرفية ساسين، ومونو، والجميزة.
«أهلاً بيروت» في الحمراء
لكن، يبدو أن هناك من فكر في هذا العام بأن يشجع الناس أكثر على النزول الى الشارع ليكون مرتعاً أكثر حرية للترحيب بالسنة الجديدة، ونثر الرماد في عيني عام يمضي بآلامه وأزماته الاقتصادية والسياسية والشخصية. الدعوة التي انطلقت عبر موقع «فايسبوك» الاجتماعي تأتي تحت عنوان «أهلاً بيروت» وتدعو الناس للاحتفال بليلة رأس السنة في نقاط محددة في شوارع منطقة الحمراء، حاملين البالونات الحمراء وواضعين القبعات «الطرابيش» الحمراء التي أطلقها سبعة من منظمي المشاريع الثقافية والفنية والاجتماعية، الذي حرصوا في مبادرتهم هذه على تأكيد أن «أهلا بيروت» ليس حدثا منظماً، بل هو نوع من الدعوة العفوية التي تذكر الناس بأنهم «اعتصموا في شوارع بيروت، وحاربوا فيها، وتظاهروا، إنما قلما احتفلوا، فلينزلوا اليها في هذه الليلة المميزة».
ويذكر نص الدعوة المواطنين بالتالي «يهدي الناس بعضهم البرتقال ليلة رأس السنة، وفي اسبانيا يأكلون العنب، وفي فرنسا يتناولون «الفوا غرا» (كبد البط)، أما في بيروت، فكل المطلوب أن تحضروا أي هدية أو تذكار لونه أحمر وأهدوه لمن تريدون في السهرة التي تبدأ عند التاسعة مساء وتمتد حتى ساعات الصبح الأولى».
ويشير أحد المنظمين مازن سكرية إلى أن «نقاط تجمع ستحدد في الشارع الرئيسي للحمرا وفي شارع المقدسي، ويعلن عنها لاحقا لتجمع الناس حيث تطلق البالونات والمفرقعات ويتم تبادل الهدايا».
هكذا، من المفترض أن يتحول السهر في شارع الحمراء إلى حضن للحمراويين، وغيرهم من الزوار الذين سيتنقلون بين المقاهي الليلية الجديدة والمستجدة في الشارع، علماً أنها باتت تتجمع في ثلاث بقع مركزية، أولى في «سنتر استرال»، وثانية في الزقاق الرابط بين شارع الحمراء الرئيسي وشارع المقدسي، وطبعاً شارع المقدسي الذي يحتوي العدد الأكبر من المقاهي.
أما المواطنون الذين قرروا أن يخالفوا القاعدة، رافضين الاحتفال بالسنة الجديدة في مساء السبت في الحادي والثلاثين من الجاري، فوجدوا خيارات لدى بعض المطاعم التي قررت أن تنظم عشاء ساهراً وحفلات فنية اليوم، أو في الأول من كانون الثاني من العام 2012.
أين ما كانت السهرة، ومتى كان موعدها، كلمة واحدة ستوحد ألسنة الناس في منتصف ليل السبت: كل عام وأنتم بخير.. على أمل أن يرحل هذا العام بخفة مشتهاة، وتقبل السنة الجديدة ببعض الصفحات البيضاء لناسها.