ولكن، أبعد من المعاني الرمزية لتلك اللفتة القواتية «الحميمة» حيال عرسال، تعكس هذه المبادرة معطوفة على زيارة سمير جعجع الى السعودية خلال فترة الأعياد، حدة الشرخ القائم بين الخيارات الاستراتيجية على الساحة اللبنانية عموما وعلى الساحة المسيحية خصوصا، حيث يبدو واضحا أن جعجع ذاهب حتى النهاية في رهانه على التحالف مع «الاكثرية المذهبية» في المشرق وامتداداتها اللبنانية، في مقابل إصرار ميشال عون على المضي في تحالفه مع «الأقليات المذهبية» من لبنان الى سوريا وباقي المنطقة.
ولئن كانت «القوات» تعتبر ان تضامنها مع عرسال «يشكل أمرا طبيعيا في مواجهة محاولات استهدافها من الحكومة الموالية للنظام السوري، لا سيما ان ائتلاف قوى 14 آذار هو من النوع العابر للطوائف والمذاهب»، يتوقف بعض العونيين مليّا عند دلالات ما يسمونه تعاطف «القوات»، التي ترفع شعار حماية المسيحيين، مع تيارات سلفية تمثل بأفكارها وسلوكها خطرا عليهم، ليخلص هؤلاء الى الاستنتاج أنه «لقاء الأصوليات»، حيث تغذي الواحدة الأخرى، برغم النسيج الفكري والعقائدي المختلف لكل منها.
وهاجس الحركات المتطرفة ـ سواء حملت إسم «القاعدة» او غيرها ـ يؤرق منذ فترة بكركي التي تراقب بقلق تنامي هذه الظاهرة، ليس فقط في لبنان، بل في المنطقة ايضا من مصر الى سوريا وغيرهما من الدول العربية، وقد ناقش البطريرك الماروني بشارة الراعي بعض زواره خلال الايام الاخيرة في هذا الهاجس، معربا عن قناعته بأن هناك خطرا حقيقيا يهدد المسيحيين بسبب انتشار ثقافة متعصبة ودموية تميل الى إلغاء الآخر المغاير، بمعزل عما إذا كان أصحابها ينتمون مباشرة وعضويا الى «تنظيم القاعدة» أم لا.
وما زاد من قناعة الراعي ومعظم أعضاء مجلس المطارنة الموارنة بأن لبنان ليس بمنأى عن هذا الخطر المتنامي هو ما تبلغه مؤخرا من مراجع أمنية رسمية حول وجود معطيات ووقائع تثبت ان هناك بالفعل مجموعات أصولية مسلحة وتكفيرية تنشط بأشكال مختلفة في البلد.
ويبدو ان هذه النقطة التي يختلف اللبنانيون حول طريقة مقاربتها ومعالجتها، تشكل في المرحلة الحالية أحد القواسم المشتركة بين بكركي و«التيار الوطني الحر» اللذين يتشاركان الى حد كبير التوجس من تعاظم قوة التيارات السلفية ويتقاربان في قراءة طبيعة التحولات التي يشهدها العالم العربي وانعكاساتها السلبية على وضع المسيحيين، كما ظهر من سياق اللقاء الذي حصل قبل أيام قليلة بين البطريرك الراعي وقيادي بارز في «التيار»، بمشاركة البطريرك السابق نصر الله بطرس صفير وعدد من المطارنة.
في تلك الجلسة، استغرب «القيادي البرتقالي» إهدار الوقت «في مناقشة ما إذا كانت «القاعدة» تتحرك في لبنان أم لا، بينما يجب ان تكون هذه الحقيقة مثبتة وغير قابلة للبحث، ومن لديه شكوك فيها، ما عليه إلا ان يسأل أهالي شهداء الجيش اللبناني في معركة نهر البارد وقبلها في أحداث الضنية عام 2000، حيث جرى استخدام كل الأساليب البشعة لـ«القاعدة» في القتل والذبح، كما بإمكان من لا يصدقنا ان يسأل المقاتلين الذين ذهبوا الى أفغانستان والعراق..».
وتابع القيادي العوني مخاطبا الراعي والمطارنة الحاضرين: من «فتح الاسلام» الى «جند الشام» وغيرهما من التنظيمات الإرهابية.. كلها أسماء حركية وفروع مختلفة لأصل واحد هو «تنظيم القاعدة» الذي يعرف الجميع انه المنبع الفكري والعقائدي لهذه المجموعات، والغريب ان هناك من يريد ان يُحرّم علينا التضامن مع وزير الدفاع والمؤسسة العسكرية بينما يحلل لنفسه التعاطف مع البيئة الحاضنة للاتجاهات المتطرفة، علما ان الرئيس سعد الحريري كان أول من أقرّ بوجود «القاعدة» في لبنان.
واستعاد القيادي العوني تجربة فريق 14 آذار في التعاطي مع الظواهر السلفية، لافتا الانتباه الى ان وزير الداخلية الأسبق أحمد فتفت لم يتردد في الترخيص لحزب التحرير، كما أعطى الكثير من الرخص لجمعيات تحمل طابعا أصوليا.
ولفت القيادي البارز الانتباه الى ان مدرسة التكفير والإلغاء هي واحدة في مصر وسوريا ولبنان، تقودها «القاعدة» وأخواتها، ويُفترض ان يكون رئيس الجمهورية ميشال سليمان الأكثر معرفة بممارسات هذه المدرسة وهو الذي تولى قيادة معركة «نهر البارد» ضد «فتح الاسلام» عندما كان قائدا للجيش.
تجدر الإشارة الى ان هذا القيادي في «التيار الحر» عاش واقعة شخصية، ما زالت ترخي بظلالها عليه حتى اليوم، إذ حصل خلال مشاركته في مراسم زفاف، في إحدى الكنائس قبل سنوات، أن فوجئ بأحد الاشخاص يباغت قريبا له (أي للقيادي) بضربة على الرأس بواسطة عصا، الامر الذي أودى بحياته فورا، ليتبين لاحقا ان المجرم هو من التكفيريين! يسرد «الراوي البرتقالي» هذه الحادثة وكأنها وقعت للتو، تاركاً لمن يهمه الأمر ان يستخلص العبر المناسبة منها.