وإذا كان قسم من أبناء الضنية اختار النزوح مع بدء موسم الشتاء نحو طرابلس والمناطق المحيطة بها، وذلك بهدف تعليم أبنائهم والاقتراب أكثر من الجامعات والمعاهد لاختصار المسافة والوقت وتوفير الأموال، فإن من بقي منهم في بلدته يحسب ألف حساب، وتحديدا في هذه الظروف الاقتصادية الصعبة، حيث تعتبر مشكلة الحصول على وسيلة للتدفئة بالنسبة لهم من أهم المشاكل، ترخي بظلالها على الأهالي، وتفرض عليهم إجراء عمليات حسابية بالغة الصعوبة ووضع خطط لتأمين وسائل التدفئة بما يتناسب وإمكانياتهم المالية. وهم وإن كانوا لم يعدموا وسيلة سابقاً في تأمين احتياجاتهم من مادة المازوت التي كانت تصلهم عبر المهربين من سوريا، ويتم بيعها في بعض قرى المنطقة بعيداً عن أعين «الدولة» بأسعار أقل من السوق المحلية بنحو ثلاثة آلاف ليرة لبنانية بالمفرق، وبالجملة بأقل من خمسة آلاف ليرة، إلا أن تطورات الوضع الأمني في سوريا أعاد الأمور إلى نقطة الصفر، وفرض عليهم مجددا البحث عن بدائل للتدفئة يسهل الحصول عليها بأسعار معقولة، وهو ما يدفعهم إلى التفكير إلى الاعتماد على تدفئة الحطب، خصوصا مع الانقطاع المتواصل للتيار الكهربائي في تلك المناطق في فترة الشتاء على وجه الخصوص، بسبب التعديات على الشبكة العامة للكهرباء وسرقت أسلاك التوتر العالي الشائعة في المنطقة.
وعلى الرغم من عدم وجود تقارير رسمية عن حجم التعديات والأضرار التي خلفتها على الثروة الحرجية في الفترة الحالية، إلا أن بعض الأهالي أشاروا إلى وجود أعداد لا بأس بها من الحطابين يصولون ويجولون في أحراج المنطقة النائية متسلحين بأدواتهم البدائية والحديثة، وتحدثوا عن سيارات رباعية الدفع وشاحنات صغيرة تتحرك تحت جنح الظلام وهي في طريقها لنقل «الغلة» التي استحصل عليها الحطابون، مشيرين إلى أن ذلك الحطب بغالبيته ليس للاستخدام الشخصي ويتم تخزينه في مستودعات التجار. وكان أبناء الضنية كغيرهم من سكان المناطق الجردية في لبنان التي تعتمد على مادة المازوت للتدفئة استبشروا خيرا مع قرار الحكومة تخفيض سعر المازوت الأحمر، لكن استغلال التجار لتلك المادة وانقطاعها المتكرر، خيب آمالهم وضاعف من الأعباء المالية الملقاة على عاتقهم، خصوصا مع توقف إمدادات المازوت المهرب من سوريا، كما وزاد من مخاطر التعديات على الثروة الحرجية، حيث شهدت منطقة جرد جيرون وعيون السمك، وجرد مربين، بداية فصل الشتاء عمليات تعد واسعة طالت أعداداً كبيرة من الأشجار، بحسب مصادر متابعة للملف البيئي، والتي حمّلت الدولة والقوى السياسية المسؤولية المباشرة عن تلك التعديات، لافتة إلى أن تقصير أجهزة الرقابة في ملاحقة المخالفين والغطاء الذي يوفره بعض السياسيين للمعتدين على الثروة الحرجية شجع هؤلاء في التمادي بأعمالهم.
وكما هو معروف فإن الضنية تمتلك أكبر غابة أرز في لبنان، ومساحات واسعة من الأراضي الحرجية التي تزخر بالأشجار النادرة والمعمرة، وجرت محاولات عديدة في العامين الماضيين، وإن كانت خجولة، لإطلاق حملات تشجير لتعويض النقص المتزايد في تلك الثروة. ويقول أبو علي حسين (وهو أب لستة أولاد ويعمل في الزراعة): «لقد درجت العادة كل سنة، أن نقوم بتخزين المازوت أو الحطب، ولكن كما هو معلوم فإن أسعار تلك المواد مرتفعة، ما يضطرنا إلى شراء احتياجاتنا اليومية إن توفرت الأموال لذلك، ومنا من يلجأ إلى قطع بعض الأشجار المثمرة من أرضه لتدفئة أولاده، كما حصل في العام الماضي حيث كان البرد قاسياً جداً».
ويقول المواطن خالد الشيخ: «اعتدنا الاستعداد لفصل الشتاء بشكل مقبول وجيد خصوصاً أنه يكون ظالماً علينا، كما حصل العام الماضي حيث صرفنا أكثر من خمسة براميل من المازوت (ما يعادل ألف ليتر) وهي كمية كبيرة جداً». ويضيف: «قطعت العام الحالي الشجيرات من حقلي الوحيد الذي أملكه لتأمين التدفئة لعائلتي»، ويتساءل عن سبب ارتفاع سعر المازوت بسبب ومن دون سبب وهل ستصل سعر الصفيحة إلى سعر صفيحة البنزين؟، ويقول: «سابقاً كانت سيارات التاكسي والفانات وقسماً من السيارات الخصوصية تعمل على المازوت، ما يعني أن هناك طلباً كبيراً عليه، أما الآن فكل فترة تصدر تسعيرة جديدة وزيادات جديدة وكأن وزير الطاقة لا عمل له سوى زيادة السعر وربما سيسبق البنزين، وكأن الجميع قد اتفق على خنق الفقير ومنعه من التفكير بأي شيء آخر سوى حياته اليومية، كما أن الزيادة الدائمة في سعر المازوت ستمنع الكثير من العائلات من استعماله في التدفئة وستدفعهم دفعاً نحو وسائل أخرى غير قانونية، كقطع الأشجار الحرجية كاللزاب والسنديان الذي يستعمل في صناعة الفحم». ويؤكد محمد حمد: «هناك بعض التجار يقطعون الأشجار لتحقيق الأرباح، وهم يحظون بغطاء او يتم غض الطرف عنهم، أما نحن فعندما نضطر وفي حالات العسر الشديد إلى قطع شجرة لتدفئة أولادنا ولو كانت غير معمرة أو نادرة، نجد المحاضر تلاحقنا وتجعلنا نضرب كفاً بكف على ما ارتكبناه، وكأن البلد خلق لناس من دون ناس والقانون وجد فقط للفقراء والضعفاء».