هبطت الطائرة في مطار بغداد الدولي وعلى متنها عشرات اللبنانيين، وبالتحديد من الطائفة التي لطالما تمنت أن تزور المقامات الدينية في العراق، وكانت قد امتنعت أو مُنعت من القيام بذلك سابقاً بسبب حكم صدام وبعد العام 2003 بسبب وجود الاحتلال.
تلاشى الخوف الأمني وعقدة الشعور بالخطر، فقد غادر الاحتلال العراق وثمة أكثر من مسوّغ يدفع الناس إلى زيارة بغداد. المدينة التي يجهل عنها الناس الكثير، ويعرف البعض أخبارها عبر معلومات تحاكي توجهات المصدر حينا والمتلقي أحيانا، كما تعتمد على براعة الوسيط، سواء كان مقروءا أو مرئيا، في نقل المشهد العراقي حسب ما يلائم توجهاته.
رافقني في سفرتي، التي استمرت ساعة وعشرين دقيقة في الطيران اللبناني، كاتب الاجتماع العراقي علي الوردي رحمه الله في كتابه «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث»، وهو كتاب كلما قرأته رجعت إليه من جديد. كتاب يتحدث عن تركيبة الشخصية العراقية، عن انتماءاتها وولاءاتها، عن مزاجيتها وازدواجيتها أحيانا، عن بكائية الطقوس والانغماس في الآخرة، عن القيامة وإسقاطاتها، عن مراقد الأئمة السبعة في العراق، عن حجيج الناس لهذه القبور في الزيارات، وعن التصاقهم كذلك بأبي نؤاس، أشهر واكبر شوارع بيع الخمور في العراق.
غادرت مطار بغداد لتقع عيني أول ما تقع - والعراق يعيش ذكرى مقتل الحسين بن علي في موقعة كربلاء - على عبارة في يافطة كبيرة كُتب عليها «كل يوم عاشوراء وكل ارض كربلاء».
صور ويافطات عملاقة بآلاف الدولارات تترجم الكبت وقمع حرية الممارسات الدينية والطقوس والشعائر إبان حكم صدام، في أحياء غابت عنها أية شجرة للميلاد أو تذكير بان هنا في هذه المنطقة القريبة من المطار، والتي اسمها «كرادة مريم»، هنالك تواجد مسيحي. ما من رمز لصليب أو صورة للعذراء أو معالم احتفال في عيد الميلاد، فالمسيحيون في العراق ألغوا شعائرهم الميلادية تعاطفا مع عاشوراء المسلمين الشيعة لتزامن المناسبتين.
من كان يقلّني بسيارته قال لي «انظر كيف صرنا اليوم نتحدث عن إمامنا وعن ثورته ومظلوميته». لكنه صمت ولم يجب حين سألته كيف يعقل أني سافرت من دولة وقطعت دولة أخرى (سوريا) ورحلتي لم تستغرق الساعتين، في وقت أنا في قلب بغداد منذ أربع ساعات ولم أصل بعد إلى بيتي الذي كنت أبلغه بنصف ساعة. ثم استدرك بعد قليل «انه الأمن.. لا يُبسط إلا بهذه الطريقة».
اليوم، حين تتجول في بغداد لا ترى زهرة أو حديقة، ولا ترى ساحات لرياض الأطفال، ولا ترى ما ألفته من جداريات عملاقة تحاكي وجه العراق الحضاري. ما تراه هو فقط صور لرموز وساسة وأعلام سوداء وخضراء وحمراء، كما يافطات النعي التي كتب عليها «استشهد بفعل جبان». ما تراه فقط أسوار من الاسمنت تقسم بغداد إلى كانتونات، وبعدها بين حاجز وآخر حاجز جيش أو امن وطني. ترى بغداد تغص بأهلها، ويطغى عليها لون «الصفوية»، التكسي الصفراء الإيرانية الصنع والتي دخل منها إلى العراق حتى الآن قرابة المليوني سيارة.
لا تسمع في مذياع السيارة أخبارا عن المشهد السياسي العراقي أو الإنمائي أو الخدماتي، لا تسمع عن الانسحاب وعن»اللحظة التاريخية» لحظة خروج الاحتلال، فمن سيارة أجرة إلى أخرى يختلف السائق لكن صوت المذياع حسيني بكائي بامتياز، الكل في العراق يبكي ولا تجد فرحا فيه أو نظرة إلى مستقبل أو حياة. لا يسهم الناس فيه في بناء دولتهم، بل تركوا الأمر لرجال السياسة الذين لا يعرفون عنهم شيئا، بل انتخبوهم فقط ولاء للمذهب والطائفة أو العرق والمصلحة.
رأيت مخلفات الاحتلال ليس على الأرض بل في وجوه الناس وأعينهم، في خوفهم من القريب الآتي ومن أزمات الساسة والسياسة ومن المجهول، في التحولات والتقلبات التي يعيشون فيها صبح مساء، في التهم وتبادلها، في الحذر من عودة أعمال العنف الطائفية التي دارت رحاها بين العامين 2006 و2007 عقب تفجيرات سامراء، في القلق من استهداف مناطق طائفة دون أخرى، في الخوف من الميليشيات من السلاح خارج السلطة، من القضاء، من بوليسية الدولة، من قبلية المجتمع، من حظر التجوال، من القبول بسوء التجربة بكل ما فيها من عهر.. في الخوف من العودة إلى الوراء، فكل ما يحدث هنا في العراق من موت وفساد ومرض ونقص في الخدمات ومن محاصصات وتشظي وتشرذم وتقسيم وشح وجفاف من ومن ومن... أرحم لهم من عودة البعث إلى العراق.
رأيتها في الفقر والجوع الذي يبدو جليا في الطرقات، وفي ثياب أطفال المدارس في القرى والأرياف الجنوبية الغنية، التي غادر أهلها ثقافة الزراعة والاهتمام بالأرض وحبها ليكونوا عناصر امن وحمايات ورجال شرطة وسير، بعد أن جفت أنهارهم وبارت أراضيهم. ولدى عمال المساطر الذين يغتالون كل يوم الفقر والجوع في البصرة، التي تحوي أكثر من نصف احتياطي النفط العراقي، وما زال ماؤها مالحا قيحا وأطفالها مصابين بأمراض سعر الطعم لأبسطها، نحو نصف دولار.
عام تلو عام والأزمة في العراق تصبح أكثر سوداوية وأكثر التصاقا بالمجهول. مجهول أدخلها في نفق صعب الرهان عليه، حيث منذ احتلاله المباشر وحتى انسحاب آخر الوحدات القتالية الأميركية منها، والجدل قائم حول إمكانية إدارة دولة بمثل مكانة وموقع العراق. والأسئلة كبيرة بكبر المرحلة الراهنة وما يعتري التحولات فيها، محليا وإقليميا ودوليا، من تناقضات وإشكاليات تهدّد حيناً بانفلات يحرق المنطقة، وأحيانا أخرى ترسم تباشير خير حيث سقوط الأنظمة وتغيير بعض الأقنعة.
في الواقع، تكمن الأزمة في بلاد الرافدين في تحديات خمسة: وحدة العراق، أمنه، موقعه ومستقبل هذا الموقع، ثروته، ومدنيته.
فالعراق، ومنذ احتلاله وكتابة دستوره، يعيش أزمات جمّة أساسها كتابة هذا الدستور والتصويت عليه مباشرة من قبل الناس من دون قراءته. فالناس فرحوا بالممارسة «الديموقراطية»، وإن تحت أزيز الرصاص والمفخخات والانتحاريين ودبابات الاحتلال. العملية بالنسبة لهم أشبه «بالملائكية»، فلا حزب واحد حاكم بعد اليوم ولا بعث أو قرية تحكم باسم القبيلة، بينما يُعتبر ذلك الدستور أولى الكوارث في تأسيس ونشأة الدولة العراقية الوليدة.
وجاءت التعدّدية الحزبية كخطوة أولى في سلّم بناء الدولة «الديموقراطية»، ولكنها كانت مبنية على مكونات حزبية هجينة، عرقيا وطائفيا ومذهبيا، وكان البعض منها مكملا لديكور اللعبة الانتقالية في العراق، كي يتسنى لبول بريمر، الحاكم العسكري للعراق بعد الغزو، تسليم دولته ركاما أو حطاما إلى ساسة جدد لم يعرف عنهم الشارع العراقي شيئا.
أحزاب دخلت السلطة ولم تكن ذات تجربة على الأرض. ولم يكن لهذه الأحزاب أي برنامج سياسي، بل إنها لم تكن تعمل أبدا بمعزل عن الإرادة أو الإدارة الأميركية وكانت تهرب، حفاظا على ما تبقى من ماء الوجه، إلى «الانبطاح» أمام دول الجوار، وأحيانا أخرى إلى ابعد من ذلك، حيث كانت تُتخذ القرارات بعد مناقشتها خارج أسوار الدولة، مما أتاح للبعض إمكانية التدخل السافر في إنشاء المجاميع المسلحة، بل تصنيع الكتل وتوزيع الوزارات.
وهو أمر أكدته الاعترافات الأخيرة لبعض الجماعات المسلحة التي أُلقي القبض عليها في العراق. وتثير هذه الاعترافات تساؤلا خطيرا لربما يفسر ما قدمنا له، فالتدريب على أسلحة كواتم الصوت، وهي افتك العمليات دموية في العراق من اغتيالات قضاة وساسة وإعلاميين، تدرّب عليها منفذوها في تركيا، حسب ما أشار مستشار الأمن القومي العراقي السابق موفق الربيعي لـ«السفير».
كما أصبحت العمليات الانتحارية جزءاً من مشاهد إرباك المسرح العراقي، لا سيما ما تزامن منها مع خروج الاحتلال وبطلان الذريعة «المقاوماتية»، فالاستهدافات الأخيرة وما سبقها لم تفرّق يوما بين المدنيين مهما كانت انتماءاتهم، وان كان الهدف في المطلق ذات صبغة طائفية أو أحيانا طائفية سياسية. إلا أن آلة الموت العشوائية وأدواتها لا تميّز بين صغير وكبير أو بين ذكر وأنثى في بلد قامت حضارته الجديدة على إقصاء الآخر وإلغائه.
ففي العراق الذي تزيد مساحته على الاربعمئة ألف كيلومتر مربع ويقارب تعداده السكاني الثلاثين مليونا ونيّفا، تتشابك المساحات وتتداخل الاثنيات والعرقيات، ويشكل مزيجها الفسيفسائي لوحة مشوهة تنتج ما هو أعراقا أو عراقا أو ارض سواد كما سماها الملوك في العهود القديمة، تسمية يراها البعض نابعة من نخيله وأشجاره التي تغطي أغلب مساحته التي رأيتها بالية خربة. والسواد لعله اليوم هو تلك اليافطات التي تعلق على كل الجدران وفي مفترقات الطرق وفي المؤسسات، سواء كان بعضها بكائيا عاشورائيا أو كان نعيا لضحايا عنف أو إرهاب.
وعليه، فالمشكلة العراقية في المرحلة الراهنة اخطر بكثير مما قد حكي عنها، واكبر بكثير من التنظير والتأطير. إنها مشكلة تترامى أطرافها لتحرق الخيال وتميت المكان بل الزمان.
الحياة هنا متوقفة كالموت، ورتابة الأحداث تجعل ابسط من يسير في بقايا طرقات بغداد «مومياء» متحركة من دون شعور أو إحساس. الهوية معدومة والشعور بالمسؤولية غادر الجميع ممّن يعيشون لحظة القيامة باختلاف مفاهيمها الإيديولوجية والاصطلاحية. التاريخ هنا في بلد الغزوات والحروب والسطوات والاحتلالات متكرر بطروادات تختلف باختلاف العصور ومراحل الصراع.
المثقف في شارع المتنبي خائف وجل، والإعلامي بوق، وحقوق المرأة والطفل مصادرة ومعدومة، والفساد متفش في كل أروقة الدولة التي قال دستورها الجديد إنها إسلامية. أما بغداد ليلا فمدينة أشباح لا حياة فيها أو أنوار، وفي الصباح خوف مرتقب، حيث خطر التفجيرات يصل ذروته في أوقات العمل، لا سيما قرب المدارس والجامعات والكنائس والمساجد والحسينيات وفي الأسواق والطرقات.
المشهد السياسي لا يفقه ساسته أبجدية السياسة، واللعبة الديموقراطية تحكمها الطائفية السياسية، وما دون ذلك يعيش في أروقة الطائفية المجتمعية والعرقية المتربصة في هذا البلد الذي يشهد شتى أنواع الانفلات.
والمواطنة في العراق أصبحت تعني أن «الغلبة للأغلبية»، وإن عدّها البعض بمفهومه الضيق سياسة بُنيت على مقدمات طائفية وعرقية وتحالفات تمّت في أهم مراحل الدولة الجديدة، حيث قامت «مؤسسات العراق الديموقراطية» على أسس ومعايير توافقية تقسم العراق إلى كانتونات شيعية سنية - كردية، وهو تحصيل حاصل لتلميع المرايا المحطمة في بلد ساقه بريمر وأربابه في الجوار العراقي إلى «طائف» بوجه جديد.
رئاسة جمهورية وخارجية كردية، وسلطة تنفيذية شيعية، وبرلمان تشريعي سني، هي تجليّات توافق التوافق وتحاصص التحاصص، في خضم ضياع القضية الأهم والأبرز في مرحلة ما بعد الانسحاب، ألا وهي قضية إنشاء دولة حقيقية. لتكون النتيجة وطنا تعصف به المناطقية، وتقطع أوداجه الطائفية، ويتصارع ويتنازع به الساسة على مسرح كومبارسه الأساس رعية اسمها مواطن، وهذا الأخير لا يزال يحلم بقوت يومي غير مغمس بطعم الدم ورائحة الدخان.
وإذا كان العراقيون قد فرحوا بلحظة «التنوير» أو التغيير أو التحرير بعد الذي حدث في العام 2003، لم يلتفتوا إلى مصيرية تلك اللحظة، وما يعدّه لهم الآتي أو يلوح في الأفق القريب من النعرات التي تثيرها هذه المرحلة المقبلة، من التشظي والتشرذم الذي ادخله عليهم الفاتح «جنكيز بوش». وسرعان ما تمّ سلق الدستور على عجالة، ليقر ضمن مقرراته بفدرالية الدولة وشرعية تشكيل الأقاليم، حتى باتت الدولة دويلة والأقاليم دول يُصنع فيها القرار ويلتجئ إليها المركز وتعقد فيها المؤتمرات لحل المشكلات والأزمات العراقية. كما باتت تجربة الأقاليم كـ«قميص عثمان»، تؤسس لخريطة جديدة، تشبه إلى حدّ بعيد تلك التي تنبأت بها «رايس أداموس» ووقع عليها نائب الرئيس الأميركي جو بايدن حينما قال إن «الحلّ هو الفدراليات».
وما يزيد من سوداوية هذا الحل، لا بل ما هو ربما الأكثر ظلمة في تاريخ العراق، الاتفاقيات التي تجري في شمال العراق، إقليم كردستان، كاتفاقية «دوكان» التي وقع عليها من جهة السياسي الذي يشغل منصب نائب رئيس جمهورية العراق وهو في الوقت عينه قيادي في التوافق والقائمة العراقية طارق الهاشمي ومن الجانب الكردي كل من مسعود البرزاني وجلال طالباني، والتي تقضي بتقسيم العراق إلى أقاليم ثلاثة. وتنص على منطقة كردية تضم إليها المناطق المتنازع عليها في ديالى وكركوك والموصل، كما تعطي الأحقية للإقليم بتوقيع عقود النفط، مضافا إليها إنشاء 12 فرقة بشمركة، وهي قوات عسكرية كردية يتم تمويلها وتسليحها بالدبابات والطائرات والمدفعية وتدريبها من قبل المركز وتدار من قبل حكومة الإقليم. والإقليم الثاني سني بزعامة الحزب الإسلامي العراقي الذي تولى الهاشمي امانته العامة. وتسع محافظات يتشكل بها الإقليم الشيعي في الوسط والجنوب.
وهذا «الحل» يعود بنا إلى ولايات العراق أيام الاحتلال العثماني، حين كانت الإدارة في البصرة غيرها تلك التي في الموصل أو بغداد، وكان لتلك الولايات ألوية كما هو اليوم، حيث لكل محافظة عسكرها ولكل حاكم لولاية أو محافظة من محافظات العراق مليشياته ومصادر تمويله.
والى كل هذا، يبقى أن المال في العراق مشكلة كبرى أخرى تدخل في حيّز تدويل القضية العراقية، لتصبح تجربة الساسة، الساذجة والبسيطة، خلال فترة المنافي إبان معارضتهم وما يحملونه من جميل للدول المضيفة حتى الآن، تبعية تحت عناوين قومية ومذهبية وعرقية وطائفية. واللاعبون في العراق كثر والممولون أكثر، فلليبي قديما وحديثا نصيب، كما للتركي والقطري والسعودي نصيب، وآخر للإيراني والسوري، مع اختلاف طرق التمويل وسيطرة «بابا نويل» الأميركي على تقسيم الأدوار وتوزيع الهدايا.
تبعيّة تجلّت في قوائم كبرى تدير العملية العراقية وتصنع أو تربك القرار الآن، تشكّل بعضها في تركيا وأخرى في قطر برضى سعودي وأخرى في إيران ومنها من عمدته واشنطن بمباركة «العم بوش». وتجلت كذلك في ساسة يتلقون الأوامر بتشكيل الأقاليم واختلاق الأزمات مع دول الجوار أو محور الاعتدال في الخليج. وآخرون يتورطون في عمليات قتل وتشريد وإبادة، ولا خوف عليهم لانهم يحظون بحماية دول صديقة كتركيا التي تمنحهم اللجوء وترسل طائراتها الخاصة لنقل ذويهم وعوائلهم من العراق.
وبفعل كل ذلك، بتنا أمام سلطات ثلاث في العراق، يشوبها الكثير من اللغط والشك، ولا يؤمن ابسط إنسان في بلاد الرافدين في تجربة أي منها. فالتشريعية في بلد الشرائع تتعطل بسبب الأعياد، ونواب البرلمان يقضون الإجازة بين بيروت وأنقرة وعمان والقاهرة وواشنطن وطهران، في وقت هنالك ما يزيد عن الـ 300 قانون معطل من دون مناقشات أو حلول. أما التنفيذية، فلا يحق لها مطاردة مطلوب أو القبض عليه لتقديمه أمام القضاء إذا كان لاجئاً في صلاح الدين أو الانبار أو في إقليم كردستان. وبسط الأمن متروك بيد القائد العام للقوات المسلحة، والذي ما زال يبقي العصبين الأساسيين في مرحلة ما بعد الاحتلال، وزارتي الداخلية والدفاع، بيده، أو يوعز بإدارتهما بالوكالة بسبب تناحر الكتل وبيع المناصب بملايين الدورات. والقضائية بدورها تسقط في تجاذب الصراعات وتتخبط حين تريد النهضة للإبقاء على قسمها بعيدا عن النزاعات، ويسقط رموزها قاض تلو قاض بكواتم الصوت قرب المنطقة الخضراء وأمام مرأى الجميع من دون أن يرف جفن أو تثار حول الأمر الشبهات.
كما أن الدولة المدنية في العراق غائبة، فعسكرة الدولة تطفو فوق مدنيتها، لتجد أن وهم التسلّح وتدريب الجيش والشرطة وتطويرهما يطغى على همّ توفير حاجات المواطنين وحقوقهم. أما الأمن في العراق، فيتفق من هم خارج السلطة على انه امن سياسي، علماً أنه لا يتخطى المنطقة الخضراء. والجيش هزيل، ضائع بين عقيدتين: أولاهما قتالية هجومية تربى عليها إبان عهد صدام، وأخرى دفاعية بعد العام 2003 مع مهاجم مقنع يتقن فنّ العصابات وحرب الشوارع والمفخخات.
يضاف إلى المشهد أعلاه صراع الملل والنحل وصراع الطوائف والكتل، وهو الحديث اليومي في الشارع العراقي، أما إفرازاته فهي غذاء الناس حين يتنقلون آمنين ليتفاجأوا بموت ينتظرهم عند كل زاوية.
هو مشهد صراع الأحزاب والكتل داخل العملية السياسية وخارجها، وخلط القانوني القضائي بالسياسي، كما الانقسام الواضح في ملف الهاشمي، والذي راجعه، بحسب المالكي، السيناتور الأميركي جوزيف ليبرمان خلال زيارته الأخيرة إلى بغداد، قائلاً «إن ما وجدته في قضية الهاشمي صحيح، وقضية الدماء لا أخضعها للحسابات السياسية ولو أردت ذلك فليس من حقي لأن القضية قضائية والقضاء في العراق مستقل»! وهو أمر دفع بالقائمة العراقية بزعامة علاوي إلى الانسحاب من البرلمان ومجلس الوزراء احتجاجا على التعرض لأحد قيادييها، الذي بدوره غادر بغداد إلى السليمانية طالبا حماية كردية في إقليم كردستان.
صراعات الزعامات هذه انعكست على لحظة الاحتفال التاريخية بالنصر، هذا إن عُدّ الانسحاب نصرا، ولم تتمكن الإدارة الأميركية من صناعة الأزمات الجديدة وافتعالها. وقد تزامن مع هذه اللحظة صراع آخر نشب بين التيار الصدري بشقيه «عصائب أهل الحق» وكتلة الأحرار التي تأتمر بأوامر مقتدى الصدر. مما أدى إلى اصطفافات جديدة، فمن جهة تصريحات تلوّح بحلّ البرلمان وإسقاط المالكي من قبل الصدريين، ومن جهة أخرى تهديدات من قبل كتلة دولة القانون، التي يرأسها المالكي، باعتقال الصدر على خلفية مذكرة قضائية قديمة بتهمة تصفية واغتيال السيد عبد المجيد الخوئي.
فالصراع بين من ومن معروف، وإدارته معروفة. رأي يتحدث ويجاهر به الملايين من أبناء دجلة والفرات: محاور الشر هنا في الشرق الأدنى تتقاتل لتفرز عراقا هجينا غريبا عما ألفناه، عراقا قرانه سفاح ومخاض تجربته عسير وولادة الدولة به قيصرية وأيتامه أيتام جدد تركتهم وراءها الهمجية الاميركية التي شوهت وجه بغداد وحضارة ما بين النهرين. صراع يحمل بين طياته تداعي النظام المؤسساتي للدولة ونظمها الدستورية ليحل الأمر كما السياق في مؤتمر هنا للمصالحة أو هناك.
أمر دفع بطالباني، المعتكف في جمهوريته المنعزلة «سليمانية كردستان» إلى إطلاق مؤتمر وطني للمصالحة، برعاية السفير الأميركي جيمس جيفري وبتفويض من بايدن، ومباركة تركية قطرية. حيث قال السفير الأميركي لدى العراق لـ«السفير»: إنني أخشى أكثر ما أخشى على العراق من المرحلة المقبلة، ولا يجوز لنا التدخل مباشرة، ونحن لسنا سوى وسطاء ضمن اتفاقية الصداقة الاستراتيجية التي وقعت بيننا وبين بغداد، ونحاول جاهدين مع اصدقائنا لانجاح هذه المصالحة.
ومن جانبها قالت النائبة عن العراقية ناهدة الدايني لـ«السفير»إن «المؤتمر الذي دعا اليه رئيس جمهورية العراق لجميع الكتل السياسية لا جدوى منه، لان الصراعات والازمات اعمق مما يتصور الجميع».
وخلاصة الصورة، ساسة يتراشقون التهم ويتبادلونها كتبادل الادوار في ارساء مفهوم «الدم قراطية»، في بلد لا يطلع عليه صباح الا وناسه يسكنهم الخوف. الخوف على امنهم ووحدة وطنهم، والخوف من ملامح الاقتتال الطائفي، والخوف على نجاعة التجربة الهشة في الحفاظ على كيان الدولة وهيبتها من تقلبات المرحلة وصراع الارادات. مخاوف واسئلة تشغل الشارع العراقي بعد الانسحاب، وتناقش خارج العراق وتحديدا في تركيا، بحضور كبار المستشارين والقادة الأمنيين الأميركيين والأكراد وقدامى الضباط العراقيين. وتتناول النقاشات تحديات الوضع الأمني وما يرتبط به من مصير التنظيمات المسلحة وغيرها، وتحديات مستقبل النظام السياسي، والعلاقة مع الولايات المتحدة، ودور العراق الإقليمي، وعلاقاته العربية والإقليمية، وانعكاس تغيرات المنطقة عليه، فضلاً عن دور دول الجوار لا سيما تركيا وايران، ومستقبل الأقاليم والفدرالية، ومصير الدولة المدنية في العراق مقابل دور المؤسسات الأمنية والدينية.
مشهد مضطرب يعكس هوة المرحلة وعقم الحل المرتقب فيها، وينذر العراقيين وساستهم بقادم أسوأ مما كان يتوقعه البعض، حيث يستمرون في الهروب الى الامام بحثاً عن حلول، للأسف موجودة لدى أطراف خارجيين كانوا هم الفاعل الاساس في مشكلة العراق.