أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

رجل مسنّ في الحفرة

الأربعاء 11 كانون الثاني , 2012 02:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 2,215 زائر

رجل مسنّ في الحفرة

كان الطقس عاصفاً والأمطار غزيرة، وكان صباح بيروت فارغاً من المارة والسيارات. 

وعند الأوتوستراد المقابل للمنزل مباشرة، وقع رجل مسن في خندق، جرى حفره في منتصف الأوتوستراد، بهدف تثبيت أعمدة الإنارة، إلا أن الشتاء قد حلّ، فتأجل المشروع. 

كان الرجل المسنّ يحاول قطع الطريق من جانب إلى آخر، فوقع في الخندق، في ذلك الصباح الباكر والعاصف. 

اقترب منه شابان صادف مرورهما في تلك اللحظة، فشعرت باستعادة أنفاسي، لأنه كان يترتب علي، لولا مرورهما، تقديم المساعدة للرجل. وقد اتصل أحد الشابين بالصليب الأحمر اللبناني لنقله إلى المستشفى، بانتظار إخبار عائلته. 

حاول الرجل أن «يحبو»على الأرض، وشاهدته راكعاً على يديه يحاول النهوض بجسده النحيل، لكنه لم يفلح في ذلك. كان مشهده يذيب القلب، ولم أعرف ما إذا كانت لديه عائلة، وما الذي أدى به إلى الخروج في ذلك الوقت الباكر والعاصف؟ لكن، كل ما عرفته هو أن رجله قد انكسرت، وملابسه تلطخت بالوحول، وأن هذين الشابين قد أُرسلا لمساعدتي أيضاً على عدم تحمل عبء إنقاذه.. فقد اكتشفت أنه، رغم الحصانة التي يقحمها في المرء العيش في لبنان، لم تعد لدي القدرة على تحمل مشهد رجل مسن يقع في حفرة.

لقد جسّد مشهد المسنّ مأساة الحياة العشوائية التي نعيشها، بكل ما لكلمة «عشوائية» من معاني الفوضى والاضطراب والتسيير الذاتي للحياة اليومية. وبعد ساعة من الزمن، كانت جميع طرقات بيروت، الرئيسية منها والفرعية، تغصّ بالسيارات المتوقفة في أمكنتها، بسبب: الشتاء والمدارس والأعياد والسياح والمهاجرين، وفوقهم مشاريع الأوتوسترادات. 

تستغرق إقامة أوتوستراد سنة من الزمن، ثم اثنتين، فثلاث سنوات، مع العلم أنه يعتبر في بلاد العالم من أصغر الأوتوسترادات، ولا يوجد من يحاسب المتعهد والمقاول و«مجلس الإنماء والإعمار» الذي يتولى الإشراف على الأوتوسترادات، ووزارة الداخلية التي تمدد بدورها لـ«مجلس الإنماء والإعمار». وهؤلاء جميعاً يطيلون الوقت ويمددونه، بينما يعرف جميع المسؤولين والمهندسين أن بطء إنجاز الأوتوسترادات يعود إلى عدم قيام المتعهدين بتشغيل أعداد كافية من العمال والآلات من أجل إنجازها بسرعة. وهؤلاء يعتمدون طريقة فريدة في الصرف على المشاريع، تقضي باقتطاع قيمة أرباحهم سلفاً من المشروع، وتخصيص الباقي من الميزانية لمصاريف البناء، فلا يتم مثلاً تشغيل العمال ليلاً نهاراً، كي لا تدفع لهم أجور مضاعفة. 

يشتكي جميع الناس الذين يسيرون على الأوتوسترادات من بطء العمل، وينهالون بالإهانات على المسؤولين، ولا يعتصمون على الطرقات. 

يحتقر الناس مقومات حياتهم، عن وعي أو من دون وعي، إلى درجة يعملون فيها على تأمينها بطريقة عشوائية وفوضوية، ويستخدمون التحايل والتكاذب والولاء، والتكاذب في إعلان الولاء أيضاً، من أجل الحصول على الخدمة، من دون أن يتوجهوا إلى المسؤولين علناً مطالبين إياهم بحقهم بخدمات لائقة. 

يستطيع كل لبناني ملء صفحات بالشكاوى من الفوضى والنصب والاحتيال والبطالة وقلة المورد، كما يملأ صفحات مماثلة وهو يعدّد سيئات المسؤولين والمؤسسات الرسمية ومتعهدي الورش، ثم ينتخبهم، ويجرب الحصول منهم على الخدمة باعتبارها منّة، وليست حقاً. 

أما المسؤول فكـان يتنعم في ذلــك الصباح البارد بــدفء الســرير الوثير، وهو مطمئن إلى أن أحداً لن يحاسبه على حفرة في طريق. 

 

 


Script executed in 0.19250702857971