نهار الأحد 23 تموز في الساعة الثامنة والدقيقة الخامسة عشرة مساء بدأت قوات لواء «غولاني بالتحرك» داخل لبنان. وأخذت الكتيبة 51 التابعة لـ«غولاني» بقيادة يانيف عاشور موقعها الى الشرق من مدينة بنت جبيل. وفي غداة اليوم التالي، الاثنين 24 تموز، تمّ التعرف على خلية تابعة لـ«حزب الله» خلال خروجها من داخل المنطقة المبنية، فتحت القوة الإسرائيلية نيرانها وقتلت اثنين من عناصر «حزب الله»، بينما تمكن آخر من الفرار. بعد ذلك قتل عنصر آخر من الحزب. وعثر مقاتلو «غولاني» بالقرب من جثته على أصفاد، وعبوة ناسفة وجهازي اتصال. وكانت النتيجة واضحة بان الحزب يحاول القيام باختطاف جنود. ولذا صدرت التعليمات الى الجنود بأن يكونوا في مكان قريب من دون ان يظهروا على السطح.
بنت جبيل مدينة كبيرة يبلغ تعداد سكانها نحو 20,000 نسمة، وتمتد على مساحة واسعة ولها طابع البلدة الكريمة. وخلافا لصورة ستالينغراد «حزب الله» التي تكونت عنها في وقت لاحق، فإن هذه البلدة لم تكن موقعاً حصيناً، وكان فيها بضع مئات من محاربي الحزب، لكن لم يكن هناك أي حماية منظمة حولها. وخلافا للمرات السابقة التي اجتاح فيها الجيش الإسرائيلي هذه البلدة الواقعة في القطاع الغربي من الجنوب اللبناني، لم يكن هناك أي أهمية لاحتلالها هذه المرة.
ففي عملية «مِرجل 4 الموسع» التي نُفذت في ايلول 1972، سيطرت كتيبة المظليين على اجزاء من المدينة في غضون ساعات. وفي عملية الليطاني فرّ منها مقاتلو «منظمة التحرير الفلسطينية» بعد ان قام لواء عسكري بقيادة اسحاق مردخاي بقتل نحو خمسين شخصاً منهم في بلدة مارون الراس. وفي الأسبوع الأول من الحرب اللبنانية الأولى في العام 1982 لم تكن بنت جبيل أكثر من مجرد علامة على الخريطة مرت القوات بها في طريقها الى الشمال.
لقد كان للمرور في بنت جبيل (حتى لو كان هناك مقاومة أشدّ) أهميته لغرض فتح محاور الطرق وكسر تجمعات العدو وروحه. وهذه الأهمية الوحيدة الممكنة لاحتلال مدينة ما، فمن الواضح للجميع انه لا يوجد أي معنى في الانتقال من بيت الى بيت وقتل الأعداء الموجودين داخله. أما هذه المرة فقد كان الهدف «قتل مقاتلي «حزب الله» وأسرهم».
ونظراً الى حجم البلدة الواسع كان واضحاً (حتى بعد وصول المظليين الى قسمها الغربي ليل الاثنين في 24 تموز) انه لا يوجد عملياً أي تطويق لمن فيها. وكان عناصر «حزب الله» اختبأوا داخل البيوت، كما دخلوا الاستحكامات التي أعدت مسبقاً وانغلقوا على انفسهم مع ما يحتاجون اليه من خبز وماء، ولم يتأثروا أكثر من اللازم بعمليات القصف التي قام بها كل سلاح الجو والمدافع الأرضية.
افترض الجيش الإسرائيلي ان المدنيين كان خرجوا في معظمهم من البلدة، خصوصا أنهم تلقوا تحذيرات مسبقة تطالبهم بذلك. وباستثناء المواقع التي أمكن التعرف فيها الى وجود مدنيين، لم يكن هناك أي قيود على عمليات القصف الجوي والمدفعي. وبشأن الادعاءات التي صدرت لاحقاً والتي زعمت أن يدَي الجيش كانتا مكبلتين بسبب قيود أخلاقية، فإنه لم يكن هناك أي أساس لها. إن كل من اراد تدمير بنت جبيل عن بكرة ابيها، كان يتحدث عن رغبة لا عن إدراك للواقع. ففي مثل هذا العدد الهائل من البيوت، هناك ضرورة لعمليات قصف تماثل حجم تلك التي استخدمت خلال الحرب العالمية الثانية.
في المقابل، لم يكن جنود الجيش عرضة لتهديد حقيقي، إذ ان «حزب الله» الذي ينتهج اسلوب حرب العصابات، ومبدأ «أضرب الضعيف واهرب من القوي» لم يكن يقصد الدخول في مواجهة مع القوة العسكرية الأكبر الموجودة أمامه قط. ولذا لم يتم إطلاق أي صاروخ «كاتيوشا» من المنطقة التي كانت تسيطر عليها كل من قوات «غولاني» و«المظليين». كما كان من الصعب رؤية ولو مقاتل واحد من الحزب.
نهار الثلاثاء 25 تموز وهو اليوم الذي يفترض ان تخرج فيه القوات الى مهمتها، قرر كل من قائد لواء «المظليين» حغاي مردخاي وقائد الكتيبة 51 التابعة للواء «غولاني» بقيادة يانيف عاشور، كل واحد في القطاع التابع له، زيادة التماس مع العدو قليلا. وهكذا لأول مرة دخل المقاتلون المنطقة المبنية، حيث تمركزوا في عدد من البيوت الواقعة على أطراف المدينة. وقد أدى ذلك الى جعل نيران «حزب الله» أكثر نجاعة بقليل. وفي اليوم نفسه وقعت أولى الإصابات في صفوف القوات الإسرائيلية، عندما أطلقت طائرات سلاح الجو نيرانها، وذلك نتيجة خطأ في التصويب.
فقد أُصيب ستة من جنود «غولاني» بجروح، كما انه في المحاولات التي جرت لإنقاذ الجرحى سُجلت إصابات أشد إيلاماً. إذ صعدت دبابتان من طراز «ميركافا» فوق عبوات ناسفة. وفي الحالتين فتحت على الفور نيران دقيقة التصويب مضادة للدروع، في اتجاه الدبابتين المصابتين وفي اتجاه قوات الإنقاذ. وهذا دليل على ان «حزب الله» أعدّ هذه الكمائن مسبقاً، وعلى ان مقاتليه انتظروا بفارغ الصبر كي يصعد شخص ما فوق العبوة. وقد أسفر هذا الحادث عن مصرع الجنديين كوبي سميلغ ولوتن سلفين. كما ان الدبابتين المصابتين بقيتا عالقتين في ذلك الموقع لساعات طويلة بسبب صعوبة إنقاذهما، وبسبب الخوف أيضاً من إرسال معدات عسكرية إضافية الى الداخل.
انضمت الإصابة التي لحقت بالدبابتين الى حادث مأساوي إضافي، إذ ان مروحية عسكرية إسرائيلية من طراز «أباتشي لونغباو (شيرف)» المتقدمة للغاية التي يملكها سلاح الجو، تحطمت بالقرب من قرية الريحانية داخل الأراضي الإسرائيلية بعد ان سقطت من على ارتفاع 8000 قدم. وقد أدى تحطمها الى مصرع اثنين من الطيارين هما الكولونيل تسفي لوفت واللفتنانت تام فركس. وكما حدث عندما أطلقت الطائرات الإسرائيلية نيرانها بطريق الخطأ تجاه جنود «غولاني». فهذا الحادث الذي نسب بداية الى الإصابة بصاروخ إسرائيلي، وبعد ذلك الى خلل فني، إنما يبين خطر حشر كمية كبيرة من المعدات القتالية داخل مساحة ضيقة نسبياً في مقابل عدو صغير نسبياً.
واصلت القيادة العسكرية بث الشعور بالإنجاز واستناداً الى طلبها استقبل قائد «فرقة الجليل» (91) غال هيرش المراسلين الأجانب في مرصد ماتات، وقام بتبليغهم ان «حزب الله» تكبد إصابات كثيرة وان عناصره يهربون من مدينة بنت جبيل، وانه جرى وضع اليد على كثير من معداته القتالية، ثم ختم حديثه بالكلمات التالية: «خلال الساعات الأخيرة الماضية أكملنا السيطرة على المدينة». وفي وقت لاحق ادعى هيرش ان المصطلح العسكري الذي استخدمه وهو «السيطرة» (وهذا هو فعلاً المصطلح الذي وُصف في الأوامر العسكرية) لا يعني «الاحتلال». إلا ان الجمهور الإسرائيلي المتلهف الى تحقيق الانجازات لم يتوقف عند دقة هذه المدلولات، إذ ان الأمر الذي أراد ان يفهمه هذا الجمهور، هو أن الضابط الكبير أعلن من على محطة تلفزة، ان مدينة بنت جبيل أصبحت «بين أيدينا».
قبيل يومين من ذلك وصل الى إسرائيل رئيس هيئة الأركان السابق بوغي يعلون. وهو كان قال لمساعد نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني في واشنطن، في بداية القتال أنه واثق بأن الأمر يتعلق بعملية عسكرية تستغرق نحو أسبوع. ذُهل يعلون لدى سماعه قبل بضعة أيام من محدثيه أن إسرائيل طلبت من الأميركيين أسبوعين كي تتمكن من إنزال ضربة قاضية بـ«حزب الله». وقد قال الأميركيون إن هذه هي الرسالة التي نقلها الملحق العسكري الاسرائيلي في دان هرئيل، ومبعوثان شخصيان أرسلهما رئيس الحكومة إيهود اولمرت الى العاصمة الاميركية.
كان يعلون هائجاً قبل مغادرته واشنطن، إذ صرخ قائلاً «ما هو الأمر الذي يدور في رأسَي ايهود اولمرت ورئيس هيئة الأركان دان حالوتس؟ هل يعتقدان ان المواطنين في إسرائيل سيبقون في الملاجئ أسابيع وأشهراً، في الوقت الذي يحاولان عبثاً كسر «حزب الله»؟». ولذ قرر يعلون العودة الى إسرائيل والالتقاء هناك بأصحاب القرار.
وصل يعلون الى إسرائيل يوم الاحد، في 23 تموز، فاتصل بحالوتس هاتفياً وأبلغه انه مستعد للقائه.
في ساعات المساء، شاهد يعلون على شاشة التلفزة في منزله حالوتس وهو يزور قاعدة عسكرية مخصصة لاستقبال الشبان الذين حان موعد التحاقهم بالخدمة الإلزامية. وكان يتحدث بارتياح مع أمهات الجنود، ومع الجنود الذين هم على وشك بدء خدمتهم العسكرية. وقال يعلون محدثاً نفسه إن حالوتس يبدو انه لا يدرك انه يعيش حالة حرب. بعد ذلك توجه الى سكرتيره العسكري غادي شامني، وروى له ما سمعه في واشنطن، وأضاف أن «إسرائيل على خطأ وإنها تفهم الأمور بطريقة معكوسة، الوقت لا يعمل لمصلحة إسرائيل. لذا يجب تجنيد قوات الاحتياط وإنهاء العملية العسكرية هذا الأسبوع إذ اننا أضعنا حتى الآن فرصة واحدة».
قام شامني بدوره بنقل هذه الأقوال الى اولمرت. وعلى الرغم من المساعي التي بذلها يعلون، فإن اولمرت وحالوتس (وطبعاً وزير الدفاع عمير بيرتس الذي لم يكن يتحدث قط قبل ذلك مع يعلون) لم يقبلوا لقاءه. حيث ان اولمرت اشترط لعقد مثل هذا اللقاء حضور حالوتس الذي رفض ذلك. وبعد ثمانية أيام عاد يعلون الى واشنطن، وآنذاك اصبحت صورة الحرب مختلفة تماماً.
نهار الثلاثاء 25 تموز وقبل بضع ساعات من الموعد المحدد لخروج لواء «غولاني» من منطقة بنت جبيل، وصل نائب رئيس الأركان موشيه كابلينسكي الى قيادة الفرقة (91) وكانت الصورة التي تكشّفت أمام ناظريه مثيرة للكآبة. فالقوات لم تنتشر وفقاً للخطة بسبب تأخر وصول المظليين، كما أن العملية العسكرية لم تنجز شيئاً، باستثناء المحاربين الثلاثة الذين قتلوا خطأ برصاص اطلقه جنود الكتيبة (51).
كان قائد المنطقة الشمالية الجنرال اودي أدام على وشك إصدار أوامره الى لواء «غولاني» بالخروج، إلا أن إطلاق النار على القوات الإسرائيلية وصعود الدبابتين فوق عبوة ناسفة ومصرع اثنين من افراد الجيش أمور قلّلت مجتمعة أكثر فأكثر من تحمّس أدام للعملية العسكرية كلها. وفي محادثة جرت بواسطة الفيديو ـ كونفرنس مع حالوتس سمح له رئيس هيئة الأركان بإخراج لواء واحد وإبقاء اللواء الثاني في المنطقة. كان هذا الأمر بمثابة عودة الى تلك العقلية السقيمة التي تقبل بأنصاف الحلول والتي كان انتقدها في نهاية ذلك الأسبوع. فاتصل بحالوتس قائلاً «إنه لا يجوز سحب القوات».
وتابع «حددنا أهدافاً وصعّدنا الأجواء للعملية العسكرية، والجميع يعرف أننا نعمل داخل بنت جبيل وتوجد لدينا دبابات عالقة في تلك المنطقة. وإذا ما خرجنا فسيدّعي «حزب الله» أنه طردنا وسيحتفل بنصره. وعندها سنهرب الى السياج الحدودي من دون أن يكون في يدنا أي أسير من الحزب وسنبدو في وضع سيئ جداً».
(في الحلقة المقبلة:
وزير الدفاع يسأل عن خطاب بيت العنكبوت)