وبعدما أيقن الأهالي أن صباح أمس لن يشبه ليل أمس الأول، بما حمل الصباح من جثث فقط، من دون إنقاذ أي شخص على قيد الحياة، لملموا أنفسهم وتفرقوا على المستشفيات، التي كانت تستقبل الأجساد في براداتها، إلى حين التعرّف على هويتها.
بهدوء متوجّس، كانت تراقب شابة عشرينية عمليات رفع الأنقاض، علّها تعرف، مباشرةً، مصير والدها طانيوس نعيم وأبناءه شربل وجهاد وفرحات. تقول إن أشقاءها أنقذوا والدتهم، ثم عادوا لإنقاذ والدهم، بعدما حذّرهم مالك المبنى من انهيار العمارة.
وعلى الرغم من مشاهدتها جثث الضحايا تُرفع من تحت الركام، كأجساد بلا أرواح، بدت الشابة متفائلة. تقول متلعثمة: «هم أقوياء. سيظهرون أحياء. أقوياء، ولن يتركونا»، فيما كانت سيدة تقطن في المبنى المجاور تحاول إقناع ضابط الأمن بالسماح لها الدخول إلى منزلها، الذي أخلته بناء للتعليمات الرسمية.
كانت ابنة طانيوس نعيم تقف على مقربة من السيدة، التي أصرّت على ضرورة زيارة المنزل، إلا أنها ابتعدت عنها خطوات قليلة، لمّا سمعتها تقول للضابط: «ثمة كلب في المنزل المهدّد بالانهيار. أرجوك إسمح لي بجلبه».
يزداد هطول المطر، وشقيقة الشبان الثلاثة تنتظر بوهنٍ، بينما سيارات الإسعاف تصل، تسبقها أبواقها، إيذاناً بنقل الجثث إلى المستشفيات، وتسير خلفها السيارات التي تقل الأهالي والأقارب.
وبعد ساعات، كانت الشابة تسير خلف سيارات الإسعاف، بعدما شاهدت عملية انتشال والدها، وأشقائها الثلاثة، من تحت الركام، جثثاً تلفها أكياس بيضاء. آنذاك، تلاشى الأمل، ثم تتابعت عمليات انتشال الجثث، في مشهد مأساوي: لا أحد من الأهالي يريد أن يكون قريبه على النقالة. يريدون أجساداً حيّة. يقولون: «أقوياء، لن يموتوا».
تتابع ارتفاع أصوات المنقذين، والتلويح بالأيدي بعضهم لبعض، تزامناً مع دويّ أصوات الآليات. ووسط جلبة عملية رفع الأنقاض، كان شاب سوداني يحاول إخفاء شيء من الراحة، احتراماً للمأساة: «لقد نجوت من الكارثة ليل أمس الأول! كنت في الطابق الخامس عندما انهار المبنى، ثم خرجت من بين الركام»، يقول.
قرب برادات الجثث
«ليس الآن»، يشدّد إيلي عبد الكريم على الأقارب. الأب الذي فقد ابنته آن ماري ليل أمس الأول، لا يريد لشقيقتها التوأم أنتونيلا أن تعرف بخبر وفاة شقيقتها.
ترقد أنتونيلا على سريرها في مستشفى «الروم»، سعيدة بنجاتها. تتذكر الفتاة: «لما سمعت أصوات انهيار المبنى، اعتقدت أنني أحلم»، ثم استيقظت على سواد يلف المكان، وركام يعلو الركام متكدساً فوق بعضه، إلى أن أنقذوها، وشقيقها أنطوني. الفتاة، بعد حين، ستعرف أن شقيقتها قضت نحبها، وستختفي الابتسامة عن شفتيها.
يجهد إيلي ليكبح دموعه. يقول الرجل إن ابنته «استشهدت شهادة مسيحية، ونحن في يوم فرح، يوم عرس، وليس حزناً». وعن أسباب سقوط المبنى، يقول: «أقطن في المنزل منذ ولدت، أي قبل 53 عاماً، ولم تكن ثمة مؤشرات للانهيار. لكن تشييد البناء المجاور، ربما، هو السبب»، لافتاً إلى أن مالك المبنى «لم يحذرنا إطلاقاً».
يجثم على فضاء قاعة الانتظار، في طابق برادات الجثث في المستشفى الحكومي، سكونٌ، سرعان ما يُكسر مع دخول الشبان السودانيين إلى البراد، للتعرف إلى هوية الجثة: يخرجون والنحيب رفيقهم، فقد تعرّفوا إلى جثة أيوب إسماعيل.
يقولون إن ثمة 19 سودانياً يقطنون في المبنى، ولا يعرفون من كان متواجداً في المنزل، ومن غادر، إلا أنهم متأكدون من أن بعض الزوّار كانوا هناك، بما أن الأحد يوم عطلة.
وبينما كان السودانيون يواسون بعضهم البعض في القاعة، وصل ثلاثة أشخاص من الجالية الفليبنية. انتظروا، بتوجّس، وصول دورهم للدخول إلى غرفة البرادات.
من بين الفتيات اللواتي كن يسألن عنهن، ثمة فتاة اسمها ماري. يقولون إنها كانت تزور الكنيسة الكائنة في المبنى، والتي يتردد عليها أكثر من عشرين فيليبينية في آيام الآحاد، للصلاة.
إلا أن الصدف شاءت أن تتوجه الفتيات إلى كنيسة في المنصورية، فيما اتفقت الباقيات على الصلاة في الكنيسة المشيدة في إحدى شقق المبنى المنهار، وماري كانت من بينهن، سعيدة بيوم عطلتها الذي تنتظره كل يوم أحد.
وفي مشهد يشبه مشهد خروج السودانيين من غرفة البرادات، خرج الفليبينيون الثلاثة: يهزون رؤوسهم، كدلالة على أنهم تعرفوا على الجثة، ويكفكفون دموعهم.
حيلة.. أم نبوءة حقيقية؟
تتوالى قصص المقرّبين من الضحايا، وتتشعّب عناوينها، حول أسباب الانهيار: ثمة من يقول إن مالك المبنى م. س.، الذي لا يزال رهن التحقيق، سبق وحذّر سكان المبنى من احتمال انهياره، طالباً منهم المغادرة، وثمة من ينفي هذه المعلومة نفياً تاماً.
وبين المعلومتين، ثمة من قال إنه قد سبق لمالك المبنى أن «تخلّص» من سكان كانوا يملكون عقود إيجار قديمة (ثمن إيجارها زهيد)، وأجّر الشقق لأجانب بأسعار أغلى ثمناً، ثم حاول التفاوض مع أكثر من مستأجر بغية فسخ العقد الحالي، غير أن المفاوضات كانت تفضي إلى حل واحد: «نريد بدل خلو»، يعلن المستأجر، فيرفض المالك طلبه.
ونتيجةً لمفاوضاته السابقة والمطالبة بترك الشقق المؤجرة بسعر زهيد من دون خلو، لم يصدّق بعض سكان المبنى أن العمارة مهددة بالانهيار، عندما زفّ لبعضهم الخبر طالباً منهم المغادرة، ظناً منهم أنها حيلة لمغادرة المبنى من دون خلو.
ويتفق أكثر من قريب للضحايا، على خبر مفاده أنه عشية عيد الميلاد الماضي، انهار نصف عمود من إحدى الشرفات، فيما تختلف إفاداتهم حول نقطة جوهرية: هل سارع مالك المبنى إلى بحث تداعيات الحادثة أم أنه تجاهلها؟ لا جواب موحّداً.
وفيما تحمّل عائلات الضحايا الدولة ومالك المبنى مسؤولية الكارثة، حضر بينهم من ربط بين تشييد البناء المجاور وسقوط المبنى، مستندين إلى معطيات هندسية، ومتسائلين: لماذا تزامن انهيار المبنى، مع تشييد العمارة المجاورة؟