في لقاء حريصا الأخير، أعلن «وجهاء» الصف الثاني في القيادة العونية لمسيحيي الشرق تحررهم من العباءة العونية، بعد انتهاء العمل العوني في هذا الملف عند الجهد الذي بذله الباحث غسان الشامي لإحياء «حلبية» مار مارون في الذاكرة المسيحية، واكتفاء العونيين من آلية التواصل المفترضة مع مسيحيي سوريا بالوزير السابق ميشال سماحة. عاملان أساسيان دفعا باتجاه الانكفاء العونيّ: أولهما، اكتشاف التيار الوطني بعد انتخابات 2009 أن تزعم مسيحيي الشرق لا يربحه مقعداً نيابياً في زحلة. وثانيهما، انتخاب بطريرك جديد يرى في « حماية الحضور المسيحي في الشرق» أولوية جدية.
تراجع التيّار إذاً، فتقدمت القوات اللبنانية لتقود مسيحيي الشرق في مهمة مزدوجة: مزاحمة مشروع البطريرك بشارة الراعي للقول إن ثمة صوتاً مسيحياً آخر يؤيد الثورات ولا يخشى «الربيع الإسلامي»، وإشعار جمهور القوات بأن حزبهم معني بمصير المسيحيين العرب، خلافاً لإيحاءات الخصوم.
«الوجود المسيحي في الشرق» يقصد به غالباً حضور المسيحيين في مصر، لبنان، سوريا، العراق، الأردن وفلسطين، إضافة إلى تركيا وإيران، من دون السعودية وقطر والبحرين والكويت والدول العربية الأخرى.
في مصر، تأجلت زيارة جعجع، ريثما ينسى المؤمنون علاقة الحكيم الوطيدة بنائب الرئيس المصري السابق عمر سليمان، فيصبح ممكناً للمزاج القبطي العام هضم مارونيّ يحثه يوماً على تقديس مبارك ويوماً آخر على الثقة بالإخوان المسلمين. وفي اتصال مع «الأخبار» أكد مرجع في الكنيسة القبطية الترحيب بكل مسؤول لبنانيّ يزور مصر و«كنيسته»، مرجحاً أن يكون السبب الرئيسي لتأجيل تحديد موعد لجعجع في كنيسة الإسكندرية وجود البابا شنودة في الولايات المتحدة، مع تأكيد أحد المطلعين عن كثب على الخريطة القبطية أن الأقرب بين السياسيين الأقباط إلى شخصية جعجع وأفكاره السياسية، هو رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس.
عن فلسطين يفضل جعجع الابتعاد. فلا يمكن رواية جعجعية أن تزاحم المستندات الكنسية التي تحمل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة مسؤولية القضاء على الوجود المسيحي في فلسطين المحتلة.
وفي ظل صمود النظام السوري، يبقى لجعجع الأردن والعراق. علاقة القوات بالنظام الأردني وطيدة جداً، لكن توجهات الكنيسة الأردنية الأرثوذكسية بامتياز لا تنسجم أبداً مع نزعات جعجع وموقفه الثابت من الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي.
يصل جعجع إذاً إلى العراق. في ظل الانقسام الدموي الذي يَدفع المسيحيون بعضاً من أثمانه، لا يتوافر موطئ لأقدام جعجع السياسية والفكرية، سواء في بغداد أو في الموصل. فلا يبقى لجعجع من العراق غير كردستانه. الزيارة التي قام بها جعجع أخيراً وحاولت القوات الإيحاء أن هدفها الاطمئنان إلى مسيحيي العراق كانت سياسية بامتياز، لا إنسانية أو رعوية. فهي أتت تلبية لدعوة علمت «الأخبار» أن الحزب الديموقراطي الكردستاني وجهها، وحملها إلى جعجع مسؤول العلاقات الخارجية في الحزب هيمن هورامي. وبقي جعجع في الأيام الثلاثة التي قضاها في كردستان ضيف الحزب الحاكم لا ضيف الحكومة، ولم يلتق من المسؤولين العراقيين غير رئيس برلمان كردستان. لاحقاً، حاولت القوات تسليط الضوء على تشديد مطران الكلدان بشار وردة إثر استقباله جعجع على أن «الديكتاتوريات لم تكن يوماً حلاً لمشكلة»، فيما لا أحد من رجال الدين (أو غيرهم) يمكن أن يقول عكس ذلك. علماً بأن وردة تابع حديثه بالهجوم على الديموقراطية العددية التي يتكل عليها مشروع جعجع للإمساك في السلطة في العالم العربي. وبعد تشديد المطران على وجوب احترام «الديموقراطية التوافقية»، كشف جعجع أن «الانسجام الوطني» الذي يفترض على الشعوب العربية الرهان عليه «تجلى لبنانياً في 14 آذار».
لاحقاً تبلور مشروع جعجع للمسيحيين العرب. ففي المحاضرة التي ألقاها في قاعة جمعية الثقافة الكلدانية في عنكاوا، رأى أن «الهواجس والتقارير التي تتحدث عن إفراغ الدول العربية من كافة المسيحيين (وهي بالمناسبة تقارير كنسية) موجودة فقط في أحلام المجانين والموهومين وغير قابل للتنفيذ إطلاقاً». وعلى وقع التصفيق تابع: «لا توجد قوة في العالم العربي تستطيع أن تطردنا من أوطاننا». قبل أن يكشف الأخطر عبر إعلانه أنه «من المؤيدين الأقوياء لجعل سهل نينوى منطقة خاصة وآمنة للمسيحيين في العراق». إذاً، بدل أن يحث جعجع مسيحيي العراق على الاندماج في مجتمعهم وعدم الخوف من الآخر، كما يحاول أن يقول لمسيحيي مصر وسوريا، عاد إلى قناعاته اللبنانية الغابرة، داعياً هؤلاء إلى التقوقع على أنفسهم.