في الحلقة الثانية عشرة تروي «السفير» من كتاب «أسرى في لبنان: الحقيقة عن حرب لبنان الثانية» للمعلّقين السياسيين الاسرائيلين عوفر شيلح ويوءاف ليمور، تفاصيل هذا الهجوم بقيادة قائد «لواء المظليين» حغاي مردخاي الذي تلقى امرا من قائد فرقة الجليل (91) غال هيرش للوصول الى المبنى الذي كان في السابق مقرا للواء الغربي في (صف الهوا) أثناء فترة الاحتلال الإسرائيلي للشريط الحدودي. ووضع علم فوق المبنى والتقاط صورته».
كانت صورة معركة مدينة بنت جبيل مشوّشة، كما أن السيطرة التي تتمتع بها الفرقة العسكرية كانت معدومة أيضا. وفي العملية البرية الوحيدة تقريبا التي خاضها الجيش الإسرائيلي الأربعاء في 26 تموز، وهي بالتأكيد الأكثر أهمية، دخل لواء «غولاني» في حرب شوارع، ومن دون ان تتمكن القدرة العسكرية كلها للجيش الإسرائيلي من أن تغيّر شيئاً. وهكذا فإن بطولة الجنود والتفوق العددي لم يحملا معهما الى مواطني إسرائيل إحساسا بإحراز أي إنجاز.
وفي المناقشات المغلقة التي جرت بعد الحرب، أعرب قائد لواء «غولاني» تمير يادعي عن الإحباط، ذلك بأن القدرة القتالية للواء أهدرت ضد أهداف غير واضحة. حيث قال: «عندما صدرت الينا الاوامر الواضحة بالذهاب من بنت جبيل الى تبنين، قمنا بتنفيذ هذا الامر في ليلة واحدة، ومن دون أي مشكلة. لكن عندما لا تكون قاطعا وحاسما فإنك تقوم عندها بالتخبط وارتكاب الحماقات، ولغاية هذا اليوم، لا نفهم لماذا ذهبنا الى هناك: هل لقتل مخربين؟ لتدمير منصات صواريخ؟ لاستعادة الجنود المختطفين؟ للدفاع عن شمال إسرائيل؟ وماذا كان القصد؟ ولذا فإن إحساسنا أيضا بتفويت الفرصة كان كبيراً للغاية».
عبّر قائد «لواء المظليين» الكولونيل حغاي مردخاي عن مشاعر مماثلة في اجتماع لقادة الكتائب عُقد بعد الحرب إذ قال: «إن المهمات التي أُرسلنا لتحقيقها لم تكن كلها ذات طابع قيّمي. كان ينبغي لتقدم القوات في ضح النهار ان يتم فقط، إذا كان هناك سبب مهم جدا وفي مقابل الخطر على حياة الإنسان، لكن الوضع في عدد كبير جدا من الحالات لم يكن على هذا النحو.
أحسن قائد الكتيبة (51) التابعة للواء «غولاني» يانيف عاشور كثيرا في وصف مشاعره، إذ تحدث في اجتماع لقادة الكتائب أيضا بعد الحرب قائلا «عندما تجنّدت في الجيش كانت المهمة الملقاة علينا واضحة، وهي ان نقوم بقتل العرب، وان ندافع عن اليهود. فما الذي حدث لنا منذ ذلك الحين»؟
في ساعات الصباح وبينما كان تبادل إطلاق النار مستمرا، ظهر رئيس الحكومة إيهود اولمرت في لجنة الشؤون الخارجية والأمن التابعة للكنيست. وخلال عقد هذه الجلسة تسّلم مستشاره في الشؤون الإعلامية آسي شريف، قصاصة ورق تضمنت بيانا عن ثمانية من جنود «غولاني» قتلوا في المعركة. لاحظ عضو الكنيست إيفي إيتام شريف وهو يمرر القصاصة الى اولمرت فسأله عما حدث. بعدها خرج الاثنان من القاعة وبلّغ شريف إيتام بالحادث الصعب.
هنا سأل إيتام، الذي كان في السابق قائد كتيبة في «غولاني»، شريف عن هوية الكتيبة التي ينتمي اليها الجنود القتلى، فأجابه إن الأمر يتعلق بالكتيبة (51). هذه المعلومة جعلت وجه إيتام شاحبا. وقال إن ابني وزوج ابنتي يخدمان في هذه الكتيبة. وعلى الفور غادر الكنيست وذهب للصلاة عند حائط المبكى. وطوال ساعات النهار حاول معاونو اولمرت استيضاح هوية القتلى. وفي الساعة الخامسة بعد الظهر وصلت أسماؤهم وتبين أن ابن إيتام وزوج ابنته ليسا بينهم.
وفي الساعة التاسعة مساء، بُلّغ قائد الكتيبة يانيف عاشور ان على كتيبته الانسحاب من داخل البيوت التي حاربت من اجل احتلالها طوال اليوم. ومرّ قائد السرية (أ) إيتمار كاتس، الذي حل محل زميله السابق، بين الجثث الثماني لمحاربي الكتيبة. وغطى كل واحدة منها ببطانية بشيء من الحذر، وبعدها خرجت مسيرة حزينة من حمّالات الجثث في طريقها الى نقطة معينة تقع الى الجنوب من المدينة، حيث كانت تنتظرها القوة المنقذة.
قام قائد «غولاني» يادعي بقيادة قوة الإنقاذ الى النقطة التي عُيِّنت لتكون مكامن الالتقاء مع القوة التي يقودها كاتس، وعندما عبر يادعي الحدود المؤدية الى الشمال، وكان عبرها مرات كثيرة كجندي ضابط، لم يستطع إلا ان يفكر في الحقيقة القائلة إنه لم يكن هناك مع مقاتليه طوال ساعات المعركة الشديدة والصعبة. وفي ساعات فجر الخميس 27 تموز، انهت هذه القافلة الحزينة رحلتها وعادت الى داخل الأراضي الإسرائيلية، وبعد ان عاد يادعي الى المالكية، ادرك انه موجود في حالة حرب مهما كان الوصف الذي سيطلق على العملية الجارية في لبنان.
وتحت التأثير الشديد للاشتباك الذي خاضه لواء «غولاني» وما نجم عنه من نتائج، قرر رئيس هيئة الاركان العامة دان حالوتس ضرورة مواصلة العملية في مدينة بنت جبيل.
وفعلا تلقى لواء «غولاني» امراً بالبقاء في ذلك المكان يوما آخر. وأصر عاشور على عدم استبدال الكتيبة (51)، بحيث تبقى في مكانها بالمدينة يوما آخر. وبالنسبة لقائد المنطقة الشمالية أودي أدام وخلافا لحالوتس كان هذا الحادث برهاناً على انه لم يكن هناك أي معنى للعملية في بنت جبيل منذ البداية.
بقي الجدل المحتدم بين قيادة المنطقة الشمالية وهيئة الاركان مستمراً. وقال أدام انه لا يوجد في هذه العملية أي فائدة او أي منطق. أما حالتوس فنظر الى قائد المنطقة الشمالية كشخص فقد صوابه بسبب مصرع عدد من الجنود قائلا: «كونوا مطمئنين، ففي كل حرب لا بد ان يقع قتلى». أدام من ناحيته لم يستطع إلا أن يفكر في اقوال حالوتس، وأن الأمر لا يتعلق هنا بحرب. وكذلك الأمر بالنسبة الى المحادثة الهاتفية التي جرت بينهما، إذ سأل قائد المنطقة الشمالية المُحبط رئيس الاركان عما «إذا كان شاهد مدينة بنت جبيل في السابق، فرد حالوتس: «نعم شاهدتها مرة واحدة عندما قمت بقصفها من الجو». وبعدما ذهب سأل أدام بسخرية أعضاء قيادته عما إذا كانوا يتذكرون ان سلاح الجو قام في إحدى المرات بقصف بنت جبيل.
بقيت الكتيبة (51) في مكانها ثلاثة ايام من دون القيام بأي عمل، في الوقت الذي كان القادة العسكريون يخوضون جدالا فيما بينهم. واصل أدام الضغط، وقال لحالوتس»إن قادة الالوية يريدون الخروج من المدينة أيضا. فاتصل حالوتس بكل من قائد لوائي المظليين حغاي مردخاي وغولاني تمير يادعي وكانا متفقين في الرأي، إذ قال لرئيس الأركان: لا فائدة من البقاء في المكان نفسه، بعد أن أحرزنا كل ما هو ممكن، لكن إذا ما سمحتم لنا بالتقدم، فإننا نرغب جدا في الاستمرار.
أرسل يادعي قوات من الكتيبة (13) الى الداخل كنوع من التعزيز.
وفي نهاية نهار الجمعة 28 تموز تلقى أمرا باحتلال المدينة عشية السبت 29 تموز، وهو أمر اثبت له مرة أخرى مدى الارتباك الذي يعيشه القادة العسكريون الذين لا يدركون حقيقة ما يجري على الأرض. وفي اليوم التالي، انتهت القصة المحزنة بوصول الأمر بالخروج، إلا أن هذا الأمر رافقه الجدل أيضا.
فنائب رئيس الأركان موشيه كابلينسكي ورئيس شعبة العمليات غادي ايزنكوت، اقترحا إخراج لواء واحد بصخب كبير، وذلك لجعل مقاتلي «حزب الله» يخرجون من «جحورهم»، ثم الانقضاض عليهم من الكمين الذي وضعه محاربو اللواء الثاني. لكن المحاربين جميعا كانوا منهكين ويعانون كآبة عامة بعد إعلان سقوط مقاتلي «غولاني». وفي ليلة السبت / الاحد 29 و30 تموز أي بعد مضي ستة ايام غادرت قوات الجيش الإسرائيلي البلدة.
كانت إحدى المهمات المختلف بشأنها للغاية في هذه الحرب من نصيب قائد «لواء المظليين» حغاي مردخاي. ففي نهار الاثنين 7 آب وعندما صارت عملية البحث عن «صورة الانتصار» عملية يائسة، تلقّى «لواء المظليين» امراً بدخول بنت جبيل، والوصول الى المبنى، الذي كان استُخدم قبل الانسحاب الإسرائيلي فوقه والتقاط صورة له. وكان مردخاي يدرك في قرارة نفسه ان الامر يتعلق بمهمة ذات قيمة بصورة خاصة. وهو الوصف الذي أطلقه على هذه المهمة بعد الحرب. وبعد الحرب. (روى مردخاي انه تلقى هذا الامر من قائد فرقة الجليل (91) غال هيرش).
وفعلا تقدم مردخاي ببطء وحذر، وفجأة رن جهاز «وردة الجبال» الذي كان يحمله معه، وكان على الطرف الآخر احد قاده السابقين في اللواء، وهو ضابط كبير جدا في الخدمة العسكرية النظامية.
بادر هذا الضابط بسؤال مردخاي عما يفعله هناك فأجابه الاخير «أنني اقف قبالة بنت جبيل، ومن غير الممكن إدخال الدبابات، والمساعدة الجوية لا تساعدني كثيراً، كما ان الطائرات المقاتلة لا تقدم لي مساعدة قادرة على إصابة الهدف مباشرة (أثناء معارك المظليين قامت طائرة حربية بإلقاء متفجرة ثقيلة على مسافة نحو 200 متر من كتيبة الدورية التابعة للواء).
هنا سأله الضابط «ما هو الامر الذي تريد إيصاله؟ اجابه مردخاي قائلا «الوصول الى المبنى الذي كان مقرا للواء الغربي في (صف الهوا) خلال مكوث الجيش الإسرائيلي داخل الحزام الامني، ووضع علم فوق المبنى والتقاط صورته».
أصيب الضابط المذكور بذهول من هذا الكلام وقال لمردخاي: «خذ راية وضعها في المكان الذي انت فيه الآن، ثم التقط صورة واخرج بعد ذلك، إذ يجب ان لا يموت احد من اجل ان تكون الصورة هي صورة المبنى التي طلبوا منك التقاطها».
اشتهرت قصة «هجوم الراية» بعد الحرب وادعى ضباط الاحتياط الذي حضروا امام لجنة الشؤون الخارجية والامن التابعة للكنيست ان ثلاثة من رفاقهم قتلوا في بنت جبيل في ذلك اليوم في مهمة مماثلة. وفي وحدة الهندسة التي تلقت امراًً للالتحاق بقوات المظليين والدبابات لتنفيذ هذه المهمة، دخل قائد الكتيبة (وبضغط من جنوده) في جدال صارخ مع قائد اللواء مردخاي الأمر الذي أدى الى إلغاء المهمة.
إن هوس «صورة الانتصار» وهو نفسه الذي كان وراء كل العملية العسكرية في مدينة بنت جبيل منذ بدايتها، مرورا بإبقاء القوات في ارض المعركة «كي لا يقولوا إننا هربنا، وانتهاء بـ«هجوم الراية»، أدى الى دخول الجيش الإسرائيلي بنت جبيل ما لا يقل عن خمس مرات.
كانت النتيجة معكوسة تماما: فالحقيقة القائلة أن جنودا إسرائيليين قتلوا في هذه المدينة التي تبعد بضعة كيلومترات عن حدود إسرائيل، وذلك بعد أسبوعين من ادعاء هيرش ان الجيش سيطر عليها، ساهمت مساهمة حاسمة في الشعور بالإخفاق في هذه الحرب.