الغاية تنفيذ عملية شبيهة بعملية «عنتيبي» يتم فيها إنقاذ الأسرى الإسرائيليين بالقوة، عن طريق وحدة عسكرية تقوم بعملية انقضاض بعيدا عن البيت وفي قلب العدو».
في الحلقة الرابعة عشرة من كتاب «أسرى في لبنان: الحقيقة عن حرب لبنان الثانية» للمعلّقين السياسيين الإسرائيليين عوفر شيلح ويوءاف ليمور، تنشر «السفير» الوقائع التفصيلية للإنزال الإسرائيلي الذي قامت به قوة كوماندوس، في مدينة بعلبك والذي كان من شأنه أن يعيد مرة واحدة الفخر والشعور بالقدرة والتفوق وهي أمور فُقدت في الأعوام الأخيرة.
في اليوم السابع للحرب أي 18 تموز، تحدث رئيس هيئة الأركان دان حالوتس مع الكولونيل رونين، احد الضباط الأكثر خبرة في شعبة الاستخبارات العسكرية، عن الجانب الاستخباراتي للعمليات الخاصة. وكان لدى هذا الأخير اقتراح بعيد المدى فحواه إنزال قوة كبيرة تضم المئات من المقاتلين في منطقة قريبة من بيروت كي تتمركز هناك بضعة أيام، حيث سيكون في إمكانها شن غارات ضد أهداف «حزب الله» في قلب العاصمة اللبنانية.
رفض حالوتس هذا الاقتراح، معتبرا أن حماية وتعزيز قوة إسرائيلية متمركزة في بيروت حيث الآلاف من ناشطي «حزب الله» ومؤيديه، هو أمر أخطر مما يجب، إلا ان الرمزية المتمثلة في إدخال قوة كوماندوس كبيرة تعمل بقدرة عالية في قلب جبهة «حزب الله» استهوته، إذ كان في إمكان هذه أن تشكل صورة الانتصار المطلوبة. لذا قال لرونين « قدموا لي رمزاً آخر».
وهكذا ولدت عملية «مختصر مفيد» التي تُعتبر العملية الأكثر شهرة والتي نفذتها القوات الخاصة التابعة للجيش الإسرائيلي في هذه الحرب.
كانت القوات الخاصة قامت بنشاط داخل لبنان منذ الأيام الأولى للحرب. فقد ساعدت في عمليات القصف الجوي التي نفذها سلاح الجو، وقدمت معلومات استخباراتية، كما أن عدة عمليات خاصة وناجعة حدثت فعلا في تلك الأيام الأولى. وكان بعضها بقيادة قائد فرقة النيران البريغادير إيال أيزنبرغ الذي كان وصل الى قيادة المنطقة الشمالية في اليوم الأول من الحرب.
خلال الحرب كلها تم تنفيذ 24 عملية وصفت بأنها «خاصة» لكنها لم تكن كافية لحالوتس (الذي آمن بالقوات الخاصة، بل تحدث عن تشكيل قيادة خاصة لها) ولا للقيادة السياسية، إذ إنها لم توفر الإنجاز الذي كان يمكن تسويقه للجمهور رمزاً للانتصار الإسرائيلي.
أعرب رئيس الحكومة إيهود اولمرت مرات عدة وعلى مسامع رئيس هيئة الاركان، عن خيبة أمله وذلك بقوله «لقد نشأت على «أسطورة عنتيبي» في (إشارة الى عملية تحرير الرهائن الإسرائيليين من قبل وحدة كوماندوس إسرائيلية في أوغندا في العام 1976) وأنتم تطلبون طوال الوقت الموافقة على عمليات خاصة بشكل روتيني، إلا أنكم لا تقومون الآن بعمل أي شيء. لذا كونوا خلاّقين، وقدموا لي شيئا ما». وكان واضحا لحالوتس ان الحكايات عن ضرب شاحنة وهي في طريقها من دمشق الى بيروت (محملة بالسلاح) لن تسد جوع رئيس الحكومة.
أما الكولونيل رونين، فاعتقد من ناحيته أنه إذا كان من الصعب تنفيذ عملية خاصة في بيروت، فإن هناك حيزاً واحدا لـ«حزب الله» سيكون للتعرض له مدلول حقيقي وإدراكي وهو الجبهة الداخلية اللوجستية وحيز التدريب في بعلبك. لكن الأفكار التي اقترحها لهذه العملية بقيت متشابهة «قوة كبيرة تضم نحو 600 عنصر (أكبر بكثير من كل ما استخدمه الجيش سابقا في الحرب لعملية من هذا النوع) يتم إنزالها بواسطة المروحيات وتتمركز هناك بضعة ايام.
وقال رونين إن مجرد وجود هذه القوة سيكون بمنزلة ضرب الأمن الذي يشعر به «حزب الله» في جبهته الداخلية. كما أنه سيشكل تهديداً لزعماء الحزب الذين يعيش بعضهم في هذه المنطقة، وسيوضح ان إسرائيل لا تخشى أي شيء في الحرب. وكان هناك هدف آخر لهذه العملية في المرحلة الأولية، وهو إحضار شيء ما له علاقة بقضية الجنديين المختطفين. إذ إن إعادتهما في رأي اولمرت وحالوتس ستكون بمثابة الإنجاز الرئيسي الذي توقعه مواطنو إسرائيل، أي إن تنفيذ عملية شبيهة بعملية «عنتيبي» يتم فيها إنقاذ الأسرى بالقوة، عن طريق وحدة عسكرية تقوم بعملية انقضاض بعيدا عن البيت وفي قلب العدو، كان من شأنه أن يعيد مرة واحدة الفخر والشعور بالقدرة والتفوق وهي أمور فُقدت في الأعوام الأخيرة.
كمنت المشكلة هنا في العثور على طرف الخيط الاستخباراتي، لأن هذا الأمر لا يتحقق إلا عن طريق الاستنتاج أكثر من الاعتماد على معلومات صلبة. تعلّق الأمر هنا بطبيب إيراني من أفراد «الحرس الثوري»، كان «حزب الله» احتاج اليه في حالات سابقة تطلبت علاجا طبيا في أوضاع سرية شديدة.
كان الجيش الإسرائيلي خلال الحرب وحتى قبل العملية العسكرية في بعلبك، أخفق مرتين في الوصول اليه، وقد استطاع الفرار الى شمال لبنان، أو الى سوريا. وعندما خرجت القوات لتنفيذ «عملية مختصر مفيد»، علم المسؤولون الإسرائيليون أن هذا الطبيب لن يكون موجودا في ذلك المكان، وأنه لن يكون في الإمكان إلقاء القبض عليه، لكن الشخص الذي لم يكن يعرف ذلك كان أولمرت، الذي أعطى الموافقة النهائية على تنفيذ العملية قبل ذلك ببضع ساعات.
نهار السبت الثاني للحرب، أي 22 تموز، تم تشكيل فريق ارتجالي في هيئة الأركان، كان على رأسه البريغادير طال روسو الذي عُيّن مساعدا لرئيس شعبة العمليات لشؤون العمليات الخاصة، والذي كان تولى مناصب كبيرة في كل من وحدة «سيّيرت متكال» التابعة لهيئة الأركان، ووحدتَي «شلداغ» و«ماجلان» وكان عشية الحرب متفرغا تماما (عُيّن بعدها رئيساً لشعبة العمليات). وضم الفريق المذكور الكولونيل رونين، وكذلك تمير فيردو الذي كان قبل ذلك بوقت قصير انهى عمله مساعدا لرئيس جهاز «الموساد». وخلافا لحالات سابقة، ابدى كل من جهازي «الموساد» و«الشاباك» الاستعداد لتقديم المساعدة هذه المرة، إذ قال المسؤولون هناك لروسو «اسمحوا لنا فقط ان نعمل».
شهدت الغرفة التي خصصت للطاقم المذكور، أشخاصا كثيرين يعرف بعضهم بعضا جاؤوا إمّا لإعطاء النصيحة، وإمّا للتطوع في المهمة، وإمّا فقط لمعرفة ما يجري منهم إيرز تسوكرمان قائد فرقة عمود النار (لم تكن فرقته تجنّدت بعد) والذي شغل سابقا منصب قائد وحدات الكوماندوس البحرية، قائد فريق التفاوض التابع لهيئة الاركان وأحد افراد وحدة سييّرت متكال ليئور لوتن، مساعد تسوكرمان في الفرقة حغاي بيلغ الذي عمل أيضاً في وحدة «متكال» وكان قائدا لـ«وحدة إيغوز» والوحدة الخاصة بمكافحة الإرهاب التابعة لشرطة إسرائيل. إضافة الى هؤلاء كان هناك جنرالات لم يجر إشراك معظمهم في إدارة الحرب وقال احدهم عندما سُئل بعد الحرب عن مهمته «لقد قمت بإعداد القهوة لطال روسو».
قبل تنفيذ العملية بدأت تبرز مخاوف من مدتها الزمنية وحجم القوة المطلوبة والتي لم تنجم عن صعوبة العملية فحسب بل أيضا وبشكل رئيسي عن قرب موقع العملية من سوريا. فالحدود بين لبنان وسوريا تبعد أقل من عشرة كيلومترات عن منطقة العملية التي جرى التخطيط لها. فضلا عن ذلك كانت العمليات الهادفة الى منع تهريب المعدات القتالية وعمليات القصف الجوي التي نفذها سلاح الجو، أوجدت وضعا دقيقا أصبحت فيه إسرائيل كمن يمشي على حبل رفيع مقابل السوريين، إذ إن أحدا لم يكن يرغب في أن يتسبب سوء فهم بدخول السوريين الحرب.
لهذا تم في المرحلة الأولى خفض المدة الزمنية للعملية من ثلاثة أيام أو أربعة إلى نهار وليلة، مع إجلاء القوة في الفجر التالي. بعد ذلك، ألغيت فكرة إنزال قوة كبيرة وكان هذا رأي نائب رئيس الأركان موشيه كابلينسكي الذي قال ان هذه فكرة أخطر مما يجب. وهكذا بقي هناك مخطط مختصر نسبيا، نحو 200 مقاتل مع تخصيص ليلة واحدة للعملية.
ومع أن هذا المعدل قلل المخاطر، إلا انه أثار علامات استفهام بشأن جدوى العملية: ليلة واحدة وعدد اصغر من المحاربين، وهدف معنوي مهم (الطبيب) ما عاد له فائدة. وإذا كان الأمر كذلك فما الذي يدعو الى القيام بالمخاطرة على العموم. هذا السؤال طرح بعدها بإلحاح وعلى نطاق واسع أما في تلك الأثناء فإن قلة هي تلك التي فكرت فيه. إذ إن الجميع جرفته الحماسة بسبب هذه العملية الخاصة التي كانت تختلف تماما عن التخبط في جبهة الحرب نفسها. وقد أجمل روسو الوضع خلال المناقشات التي جرت في هذا الشأن بقوله «سيبدو الأمر كأن جنودنا يقاتلون في الشمال ويسمعون نبأ تنفيذ غارة على تل أبيب».
لم يكن هناك شخص اشد حماسة لهذه العملية من وزير الدفاع عمير بيرتس، فعندما عُرضت عليه الخطة للمرة الاولى، كان ضباط الجيش يتحدثون بشكل رئيسي عن اعتقال أسرى لاستخدامهم أوراق مساومة من اجل استعادة الأسيرين ريغف وغولدفاسر. وعندما أنهى الضباط كلامهم رد بيرتس عليهم بمفاهيم اخرى إذ قال «هذه العملية ستغير وجه التاريخ»!
لقد تسببت الحماسة التي أظهرها بيرتس في إقرار العمليات الخاصة، وكذلك التفصيلات، بإيجاد وضع أصبح فيه العسكريون يعتبرون موافقته على ما يقومون به أمرا مسلما به. فخلال الحرب، وقع حادثان لم يكلف القادة العسكريون انفسهم عناء التنسيق معه بشأن إقرار تنفيذ عملية خاصة. في واحدة من هاتين الحالتين كان نائب رئيس الاركان كابلينسكي مشتركا في جلسة عقدت عند بيرتس، عندما دخل مدير مكتب رئيس هيئة الاركان يارون فينكلمان غرفة الاجتماع وسلّمه قصاصة ورق. عندها توجه كابلينسكي الى بيرتس قائلا «آسف ايها الوزير لقد قمنا بتنفيذ عملية خاصة من دون موافقة مسبقة».
وبعد بضع دقائق دخل الغرفة ايضا رئيس الأركان حالوتس، وقال معتذراً من الوزير «سنقوم بإعادة القوات الخاصة» فرد عليه بيرتس «لا توقفوا العملية بسبب أمر كهذا».
في الحلقة المقبلة: عندما ألقت إسرائيل القبض على نصر الله!