المناورات والتدريبات التي يجريها الجيش الإسرائيلي، كما يُعلن عنها تباعاً، والفرضيات والسيناريوهات التي تتخللها، كعيّنات دالّة، لا تُبقي مجالاً للشك، بأن تقدير تل أبيب، يرى ويقرّ، بأن واقع التهديدات بات يقترب، أكثر فأكثر، مما كان عليه قبل حرب عام 1967، وهو ما لمّح إليه رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، بني غانتس، في معرض كلمة ألقاها في كانون الأول الماضي، بأن «ظاهرة الربيع العربي أصبحت زوبعة تعصف بالمنطقة، وقد تعيدنا الى وضع ما قبل عام 67».
في واقع كهذا، العادة المتبعة إسرائيلياً، وقد تكون المفضلة لذاتها أيضاً، هي استخدام الخيارات العسكرية، من دون إيلاء اهتمام فعلي للخيارات البديلة الأخرى، إن وُجدت. حدث هذا عام 1956، وعام 1967، وعام 1982، وأيضاً عام 1993 و1996، وأخيراً عام 2006. كانت أسباب هذه الحروب غائية ومبادراً إليها، وتهدف الى تحقيق نتائج، قدّرت تل أبيب أن بالإمكان تحقيقها، ومن شأنها أن تلغي التهديد أو تحدّ منه كثيراً، بل قدّرت أيضاً أن من شأنه قلب التهديدات الى فرص، وتعيد من خلالها تشكيل المشهد الإقليمي، في إحدى جبهات المواجهة أو كلها، بما يتلاءم ويتناسب مع مصالحها وأمنها القومي.
تميزت هذه الحروب، من وجهة النظر الإسرائيلية، الخاطئة أو المحقة، وفي معظمها، بأن الاثمان المقدر أن تدفعها تل أبيب، قليلة نسبياً، قياساً بالنتيجة المتوخاة، الأمر الذي شكل عاملاً مساعداً، بل وربما دافعاً، لشن هذه الحروب.
ما الذي تغير عن السابق، في هذه المرحلة، كي تنكفئ إسرائيل عن المبادرة الى الحرب، رغم كل التهديدات المتشكلة أمامها؟ الإجابة قد تكون مركبة كثيراً، وتتداخل فيها مجموعة من الأسباب، الداخلية والإقليمية والدولية. لكنها، من ناحية أسباب إسرائيل، وهي الأهم، قد لا تحيد عن احتمالين: إما أنها لا تجد أن الخيارات العسكرية قادرة على قلب الواقع أو الحد من تهديداته، أو أنها غير قادرة على استخدام هذه الخيارات، لأكلافها المرتفعة جداً، قياساً بنتائجها، علماً بأن الإجابة، من ناحية واقعية، قد تجمع بين الاحتمالين.
خلافاً للعام 1967، أي مشهد الهزيمة العربية والانتصار الإسرائيلي، فإن مشهد عام 2012، وما سبقه من أعوام قليلة ماضية، مغاير تماماً، إذ إن دافعية إسرائيل لشن حرب، مرتفعة جداً، وما حدث ويحدث في المنطقة يزيد من الدفاعية، لكن في المقابل، قدرة تل أبيب على استخدام آلتها العسكرية، يختلف كثيراً عما سبق، عشية قرار العدوان على العرب في الستينيات. ميزان القدرة الفعلية قد لا يسمح لإسرائيل بأن تراهن على خياراتها العسكرية لإحداث خرق في التهديدات وتحويلها الى فرص، إذ إن حجم المخاطرة كبير، والخيار العسكري مكلف، وقد يحرف الواقع الى ما لا تريده ... الأمر الذي يضطرها إلى الاعتماد على الخيارات البديلة الأخرى، غير العسكرية، وانتظار نتائجها، حتى وإن كانت الجهات التي تنفذها غير إسرائيل، من الحلفاء أو ممن يتقاطع معها في المصالح، وكلاهما كثر، في المنطقة.
هناك فرق كبير جداً بين تأجيل الخيار العسكري، بانتظار نتائج الخيارات البديلة غير العسكرية، التي يتولاها الآخرون، وبين أن تكتفي إسرائيل ببدائل الحرب، لتعذر الخيار العسكري. الفرضية الثانية، قد تكون أكثر دقة في توصيف واقع إسرائيل، سواء إزاء إيران أو سوريا أو لبنان أو قطاع غزة ... وتحديداً، إن الوقت الذي يمر، لم يعد وقتاً مستقطعاً، كما يُحكى ويؤمل لدى البعض، بل يجري استغلاله من قبل أعداء إسرائيل، لزيادة المنعة والاقتدار، ومن شأنه، بالتأكيد، أن يقلص أكثر فأكثر، فرص نجاح الخيارات العسكرية الإسرائيلية، إن وجدت أساساً.
من هنا نلاحظ، للمفارقة وخلافاً للماضي، اقتصار الفعل الإسرائيلي على التحليل السياسي للمشهد الإقليمي، بما يشمل محاولة توصيف الوقائع وإطلاق التقديرات حول مسارات الساحات العربية وغير العربية: هذا يفيد وهذا يضرّ، وهذا يسقط وذاك لن يسقط. إن إدراك تل أبيب بأن استخدام خياراتها العسكرية قد يزيد من التهديدات لا أن يلغيها أو أن يقلصها، يحوّلها الى لاعب ينتظر في مقاعد الاحتياط، حتى ما بعد انتهاء المباراة، كما يحوّلها الى متنبّئ إقليمي، يبدو حتى الآن فاشلاً في تبنؤاته.