تضيف الرواية التي رواها أكثر من سجين في المبنى «ب» لـ«السفير»، خلال اتصال هاتفي أجري معهم بعد الزيارة الرسمية، ان السجين امتثل لطلب عنصر الأمن، فاستدعى 31 سجيناً تتنوّع إصاباتهم المرضية، بين أمراض السرطان والقلب والسكري والضغط، بالإضافة إلى سجناء مكفوفين، وآخرين مقعدين».
جال المراقب بنظره عليهم، فرداً فرداً، ثم قال بنبرة عسكرية: «لا أريد أحدا اعمى أو مصابا بأمراض سرطانية. جهّز لي سجينين مقعدين، وآخر يرقد على حمّالة».
ولمّا سُئل المراقب عن بقية السجناء، غير المرضى، وإن كانوا سيقابلون الوفد الرسمي أم لا، أجابهم قائلاً: «نعم، لكن الوفد سيأتي إلى المبنى. أما هؤلاء الثلاثة فسنأخذهم إلى مبنى الأحداث، لمقابلة الوفد».
على وقع أنغام الموسيقى العسكرية، وصل الوفد الرسمي، عند الساعة الحادية عشرة، إلى مدخل مبنى «الأحداث» في السجن، محاطاً بممثلين عن وسائل الإعلام، فيما مُنع على المصوّرين الدخول.
بدا الطابق الأول، للوهلة الأولى، بعيداً كل البعد عن المشاهد المحفورة في المخيلة، حول فداحة أحوال طوابق السجن: أرضية مصقولة ببلاط برّاق، وسقف مزيّن بديكور من الطراز الحديث، وكراسي مثبتة إلى الجدران.. جلس عليها رجال مطرقي الرؤوس، تكلل الحيرة وجوههم.
لكن شيئاً فشيئاً، تبيّن أن الطابق لا يضم أي زنزانة، بل تتوزع على طرفي ردهته غرف تحتشد في داخلها أسرّة أنيقة مرتّبة. يوضح أحد السجناء، همساً: «نحن الآن في طابق المركز الطبي. ثمة سجناء يتذرعون بالمرض أحياناً، حتى يقضوا ولو عشر دقائق هنا، فطوابقنا تشبه الجحيم. هل ستزورونها؟».
يتجمهر ممثلو وسائل الإعلام حول أعضاء الوفد. تعلو الأصوات وتتداخل ببضعها، وتشرئب بعض الأعناق لتسمع رواية أحد السجناء، الذي كان جالساً على كرسي نقّال، وهو يقول: أحتاج إلى علاج غير متوفر هنا»، فيتلقى وعداً من وزير الصحة علي حسن خليل بتكفّل علاجه، في مستشفى «ضهر الباشق».
ينتقل الوفد إلى غرفة ثانية، بحثاً عن سجين آخر، من دون أن يسأل السجين الذي تلقى وعداً بالعلاج، عن اسمه!
يتحوّل السجن، لدقائق، إلى مكان يعمّ فيه الازدهار و«العيش الكريم»، فيُخال للزائر أن انتفاضات السجناء السابقة، الرامية إلى تحسين أوضاع السجن وتسريع المحاكمات، كانت ملفّقة: هنا سجناء يجلسون خلف شاشات الكومبيوتر، وفي الجهة المواربة سجناء يتعلمون الحرف الصناعية والفنية، مبتسمين سعداء.
بخطوات سريعة، ينتقل الوفد إلى المبنى «د». يدخل زنزانة فسيحة، تفوح من داخلها روائح غريبة. ثمة رجل صومالي الجنسية، وآخر سوري، وثلاثة لبنانيين.
يقول السجين الصومالي انه مصاب بمرض نقص المناعة المكتسبة (السيدا)، مضيفا: «لقد مرت ثلاثة أشهر ولم يأت الطبيب!»، فيتدخل أحد عناصر الأمن، موضحاً: «يا معالي الوزير (الداخلية)، لقد حصل خطأ تقني، ونحن في طور معالجته».
وتلقائياً، يبدأ حوار بين وزير الداخلية مروان شربل والسجين الصومالي:
(الوزير) - ما هي تهمتك، وكم قضيت هنا؟
(السجين) - جريمة قتل، وقد حكمت بقضاء 12 عاماً، وبعد أيام يُخلى سبيلي، لكنني إذا عدت إلى بلدي فسأتعرّض للقتل.
(الوزير) - إذا أردت العودة إلى بلدك، فإنني أتكفل بترحيلك بسرعة.
(السجين) مستغرباً - أعود لأموت؟
الوزير مختتماً الحوار - هذا ما أستطيع تقديمه.
وما إن غادر الوفد الغرفة، حتى علا من الزنزانة صوت يقول: «هل أتيتم إلى هنا ليصوّركم الإعلان (يقصد الإعلام)؟ لقد سئمنا من وعودكم!». لا جواب. يمضي الوفد في جولته متجهاً إلى الطابق الأول من المبنى «د»، فيبدأ الوجه الحقيقي للسجن بالظهور: مدخل معتم يفضي إلى سلّم مكسّر الأحجار، وجدران متسخة، متصدّعة، تقابلها ردهة مربعّة الأضلاع، يحمل كل ضلع منها بابا بقضبان حديدية. وخلف كل باب، زنزانات مشرّعة الأبواب.
المتهم بسرقة قطيع غنم، والمتهم بقتل نفس بشرية، والمتهم بالعمالة لاسرائيل، والمتهم بضلوعه في إشكال هو بريء منه ولم يُحاكم بعد، والمتهم بالاتجار بالمخدرات.. كل هؤلاء مسجونون في طابق واحد: يتبادلون الخبرات بين بعضهم البعض، ومنهم من يكون ضحية جلاد ما، فيغدو جلاداً ما إن يخرج من السجن.
[[[
مرّت خمس دقائق، كان خلالها أعضاء الوفد يسألون السجناء، بسرعة ومن خلف القضبان، عن معاناتهم، فارتفعت الأصوات وتداخلت بعضها ببعض: «الطعام الذي نأكله لا تأكله الكلاب! تمرّ الأعوام من دون محاكمتنا! نعيش في مزرعة! إذا كنتم تريدون الحلول فنفذوها من دون إطلاق الوعود!».
ولم يكن ثمة مفرّ من تكرار مشاهد التعاطف الرسمية، من خلال هزّ الرؤوس استغراباً واندهاشاً، حتى غادر الوفد متوجهاً إلى مبنى «معهد الموسيقى» في السجن، حيث عقد الوزيران مؤتمراً صحافياً تبادلا خلاله المديح لبعضهما البعض، ثم أطلقا الوعود الرامية إلى تحسين «الوضع»، من دون تحديد أي سقف زمني لتنفيذ الوعود.
وعندما سُئل وزير الداخلية عن سبب عدم دعوة وزير العدل شكيب قرطباوي إلى مرافقة الوفد في الزيارة، بما أن «القضاء يتحمّل مسؤولية أساسية في تسريع المحاكمات»، أجاب الوزير قائلاً: «بصراحة، لقد نسيت»!
وبدا لافتاً أن القوى الأمنية منعت وسائل الإعلام، من إجراء مقابلات هامشية مع السجناء، الأمر الذي يشرّع أكثر من سؤال: لماذا إذاً دُعي «الإعلام» إلى مواكبة الزيارة؟ هل هي زيارة إعلامية استعراضية وبالتالي تحتاج إلى تغطية؟ لماذا استثني المبنى «ب» من الزيارة، علماً بأن سجناء المبنى، وفقاً لمعلومات «السفير»، اختطفوا حوالى عشرين عسكرياً قبل خمسة أيام، لقاء إطلاق سراح زوجة أحد السجناء، التي احتجزها عناصر الأمن لأسباب غير معروفة، ثم أطلقوا سراحها بعدما أفرج السجناء عن العسكريين ؟
هل تبرّر عبارة «وضع السجن هكذا منذ القدم» تقصير الحكومات المتعاقبة عن تحسين السجون، علماً بأن الإحصاءات الرسمية تشير إلى أن مرتكبي الجرائم الحالية هم من أصحاب السوابق، وبالتالي فإن عدم تأهيلهم في السجن يؤدي إلى عودتهم إلى الإجرام؟ متى يُفك الحصار عن السجون، ويُسمح لوسائل الإعلام بزيارتها ونقل معاناة السجناء إلى الرأي العام والجهات الرسمية؟ وهل تقتصر المعاناة حصراً على الأمور الطبية الصحية؟
يُذكر أن مجموعة من السجناء المتهمين بالعمالة للعدو، تهجّمت على «السفير» في المبنى «د»، مكيلة لها الشتائم الثقيلة: «.... كفوّا عنا يا .....!». وعند الاستفسار منهم عن سبب سخطهم على الصحيفة، أجابوا متسائلين باستغراب: «هكذا يُكتب عنّا؟! هكذا يُشتم العميل الإسرائيلي؟!».