في الحلقة الخامسة عشرة من كتاب «أسرى في لبنان: الحقيقة عن حرب لبنان الثانية» للمعلّقين الإسرائيليين عوفر شيلح ويوءاف ليمور، استكمال لرواية عملية «مختصر مفيد»، اي مجريات الإنزال الإسرائيلي في مدينة بعلبك ومدخل مدينة صور ـ العباسية.
عند العرض النهائي لعملية «مختصر مفيد» وصل الى ديوان رئيس الحكومة إيهود اولمرت، كبار قادة الجيش الإسرائيلي وهم رئيس هيئة الأركان دان حالوتس، نائب رئيس الأركان موشيه كابلينسكي، قائد سلاح الجو الجنرال اليعازر شكدي، ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية عاموس يادلين، وقالوا لأولمرت ان أهداف هذه العملية هي الآتي:
«إيجاد وجود طبيعي في مركز «حزب الله» (المقترح في مدينة بعلبك)، قتل ما يتراوح بين عشرين وأربعين عنصراً من عناصره، أسر ما يقارب عشرة أشخاص من أجل المفاوضات المتعلقة باستعادة الأسرى، الربط بين المستشفى الخاضع للوصاية الإيرانية وبين «حزب الله»، البحث عن طرف خيط يوصل الى الجنديين المختطفين (لم يتم تبليغ اولمرت ان الطبيب الإيراني لم يعد موجوداً)، إيجاد تأثير رادع في مستوى الوعي. الى جانب قصف جوي يشمل نحو عشرين هدفا تتمثل في البنى التحتية الخاصة بتنظيم «حزب الله».
كان قائد وحدات «فرقة عمود النار» إيرز تسوكرمان اول شخص يقف وراء فكرة هذه العملية، وبصفته من أفراد الكوماندوس البحري، كان خبيرا بغارات العمق التي تنفذها قوة اصغر حجما كما انه عمل جبنا الى جنب مع الوحدتين اللتين وقع الاختيار عليهما، وهما «سييّرت متكال» و«شلداغ».
طلب تسوكرمان من البريغادير طال روسو الذي عُيّن مساعدا لرئيس شعبة العمليات لشؤون العمليات الخاصة، أيضا الموافقة على أن يقوم هو بتولي قيادة العملية في الميدان إذ قال «إذا ما حدث تعقيد في أثناء العملية فسيكون هناك حاجة الى شخصية كبيرة تعرف حقا ما الذي يجب فعله». وبعد حصول ما يشبه الدراما في مسألة الجنرال الذي سيتولى الإشراف على العملية، داخل غرفة القيادة في تل أبيب، نظرا لعدم تحمس يادلين للقيادة، تم أخيرا العثور على متطوع كي يتولى القياد داخل هيئة الاركان، وكان هذا الشخص هو شكدي (قائد سلاح الجو).
في الأول من آب، وتحديدا عند الساعة الحادية عشرة ليلا، وصلت مروحيات إسرائيلية من طراز «يسعور» الى عمق 100 كيلومتر داخل الأراضي اللبنانية، وبدأت بالهبوط قريبا من مدينة بعلبك. وبالإضافة الى 200 مقاتل كانوا موجودين على متن المروحيات، كان هناك مصورون قاموا بتسجيل هذا العملية العسكرية. وإلى جانب عملية الإنزال، قامت طائرات سلاح الجو بإلقاء قذائف في أماكن متعددة، وذلك بهدف إبعاد الأنظار عن الكمية الكبيرة من المروحيات التي هبطت في منطقة واحدة.
ترأس شكدي هيئة القيادة في تل ابيب وكان في الغرفة روسو وممثلون عن مختلف القوات المشاركة في عمليات النقل والإنقاذ والمعالجة الطبية. بقي وزير الدفاع عمير بيرتس ليلة العملية في تل ابيب ونزل الى غرفة القيادة وانضم الى رئيس هيئة الاركان حالوتس ورئيس شعبة الاستخبارات يادلين وكبار الضباط الآخرين في غرفة التحكم.
في تلك الساعة تقدمت القوات بسرعة كبيرة، وقام جنود وحدة «سييّرت متكال» باقتحام مستشفى «دار الحكمة» فوجدوه فارغاً. أسّرة النوم كانت لا تزال دافئة، كما ان مراوح الهواء المعلقة في الحائط كانت ما تزال دائرة. وهذا إن دل على شيء، فعلى أن الأشخاص الذين كانوا موجودين بالمستشفى تلقوا إخطارا قبل ذلك بوقت قصير، وفرّوا من هناك بسرعة. امّا الاحتمال الآخر، فهو أن نبأ استخباراتيا قد تسرب وتسبب بتحذير عناصر «حزب الله» مسبقا، وهذا الاحتمال لم يكن أحد في القيادة الإسرائيلية يرغب في التفكير فيه. لقد قام المقاتلون الذين اقتحموا المستشفى بتفتيش الغرف والاقبية، ووجدوا وثائق وأجهزة كومبيوتر كما عثروا على بعض المعدات القتالية.
أُحضر الى إسرائيل خمسة من المختطفين كان بينهم شاب يعمل راعياً، وسبق ان وقع في يد قوة إسرائيلية كانت وصلت الى تلك المنطقة حتى قبل بدء العملية. وبما ان افراد هذه القوة لم يكونوا يرغبون في قتله، فقد فضّلوا اخذه معهم. وبالإضافة الى ذلك احضر افراد القوة مواطنا لبنانيا يدعى حسن نصر الله. وليس معروفا ما إذا كان الجندي الذي كبّل هذا الشخص ووضعه في المروحية يعرف اسمه. إلا انه من الواضح ان احداً لم يعتقد ان الأمر يتعلق بالأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله. لكن اختطاف هذا الشخص كان له في نهاية الأمر تأثير معاكس لما كان يقصده مخططو العملية إذ بدا كأن إسرائيل ألقت القبض على حسن نصر الله غير الصحيح.
جرى في إسرائيل فحص «الأهلية القانونية» (هكذا وصف الجيش هذا الأمر) للأشخاص الذين تم اختطافهم في لبنان. وقامت بذلك لجنة برئاسة الجنرال أودي شاني الذي بلّغ حالوتس قراره رفض المصادقة على استمرار اعتقال هؤلاء الاشخاص. وأعرب حالوتس من ناحيته عن حنقه من هذا القرار خصوصا انه كان وعد رئيس الحكومة بإحضار عشرة أسرى من لبنان، لاستخدامهم ورقة مساومة في المفاوضات المتعلقة بالجنديين الإسرائيليين المختطفين. وفي نهاية نقاش مطول مع النائب العام العسكري تقرر إطلاق الخمسة وإعادتهم الى لبنان.
كانت شعبة الاستخبارات تعلم مسبقاً أن عضو شورى «حزب الله» الشيخ محمد يزبك، غير موجود في تلك المنطقة كما أن منزله لم يكن بين أهداف العملية. لكن هذا الادعاء أكد القيمة الضئيلة للأشخاص الذي اقتيدوا الى إسرائيل.
ساد غرفة القيادة في تل ابيب طوال ساعات العملية توتر هائل ومفهوم، كما ان الأشخاص الأقل خبرة وعلى رأسهم عمير بيرتس، شعروا في ذلك الوقت بحجم المجازفة الهائلة.
في الساعة الثالثة صباحا وعندما كانت المروحيات في طريق عودتها الى إسرائيل، قام الوزير المنفعل بيرتس بتوجيه الشكر الى الحضور، ثم خرج من الغرفة. وبعد ساعة ونصف أيقظه السكرتير العسكري إيتان دنغوت من نومه الخاطف، وبشّره بأن الجنود هبطوا في إسرائيل. وهكذا انتهت العملية بنجاح. وهكذا اصبح لدى اولمرت وبيرتس اخيرا إنجاز يفخران به، ويكون بمثابة أول صورة انتصار حقيقية.
بعد مرور يوم على عملية «مختصر مفيد»، قدمت شعبة الاستخبارات العسكرية تقويماً للوضع حكم على إنجازات العملية بصورة مغايرة تماما لتلك التي قُدمت للجمهور في ذلك اليوم نفسه. فقد جاء في هذا التقويم بصراحة ان «حزب الله» يرى في احداث الليلة الواقعة بين 1 و2 آب، نجاحا من ناحيته، إذ ان منظومة التحكم الخاصة بتنظيمه لم تُمس. كما جاء ان الحزب يرى أن الجيش الإسرائيلي أراد التعرض لأهداف أُخرى وأن مقاتليه تمكنوا من صد هذا الجيش.
وفي 19 آب وبعد خمسة أيام من دخول وقف إطلاق النار حيز التطبيق، نفذ الجيش الإسرائيلي العملية الخاصة الأخيرة، والتي أثارت اكبر خلاف في الرأي في حرب لبنان الثانية. لكن هذه العملية التي وقعت في مكان لا يبعد كثيرا عن عملية «مختصر مفيد» في بعلبك، كلّفت افدح الأثمان في الخسائر البشرية، وفي الكشف عن القدرات والوسائل، وتركت وراءها ندوبا كثيرة.
كان اتفاق وقف إطلاق النار ترك ثقوبا كثيرة بشأن تطبيقه، بما في ذلك كل ما له علاقة بمنع عملية إعادة تسليح «حزب الله»، فإسرائيل كانت تراقب بنفاد صبر كيف أن الشاحنات تنطلق من سوريا الى لبنان لتجديد ترسانة الصواريخ الخاصة بـ«حزب الله» بسرعة كبيرة.
وانطلاقا من الرغبة في وقف هذا الفيضان، انتظمت بسرعة عملية خاصة كان افرادها من وحدة «سييّرت متكال» وكان هدفها التعرض لعملية تهريب صواريخ «الكاتيوشا» الى لبنان، وتقديم براهين أن سوريا و«حزب الله» يخلاّن بوقف إطلاق النار.
تم إقرار العملية في جلسة عادية مخصصة للعمليات والغارات، وليس من خلال الإجراءات الطويلة والمعقدة والأكثر سرّية التي يتطلبها إقرار العمليات الخاصة. إلا ان ما حدث منذ اللحظة التي انطلقت فيها العملية الى طريقها كان مختلفا هذه المرة. إذ ان القوة العسكرية التي خرجت لتنفيذ المهمة انكشفت في مرحلة مبكرة جدا وحتى قبل الإنزال في منطقة العملية. وكان واضحا أن «حزب الله» يحاول تحري مكان هبوط المروحيات الأمر الذي جعل قواته في حالة تأهب في كل مكان.
وهنا واجه القادة العسكريون عدة احتمالات: إعادة القوة من دون تنفيذ المهمة، تغيير طريقة التنفيذ قدر الإمكان، تحويل العملية الى عملية علنية، استخدام وسائل نارية ودعم مكثف. وكان القرار الذي اتخذ أخيرا هو مواصلة المهمة كما هي.
أنجزت القوة مهمتها، وبدأت التحرك في طريق العودة بالقرب من قرية بوداي الواقعة على بعد 15 كيلومترا الى الغرب من مدينة بعلبك. كانت القوة تتحرك في مركبتي جيب مموهتين للظهور كما لو أنهما كانتا تابعتين للجيش اللبناني. وكان يجلس في المركبة الأمامية بجانب السائق اللفتنانت كولونيل عمانوئيل مورنو الذي يبلغ من العمر 35 عاما (من مواليد فرنسا) وكان يقيم في بموشاف جنوب إسرائيل. وهو خريج المعهد العسكري الكائن في مستوطنة عالي، وكان من ضباط وحدة «متكال» القدماء ومع مرور الأعوام جرى تأهيله لتولي مهمات محددة تطلب مهارة ومخاطرة تفوقان ما يُطلب من المقاتلين في الوحدات العادية، فشارك في كثير من العمليات الخاصة وكان مسؤولا عن التخطيط لعمليات كثيرة أخرى. ومُنح رتبة لفتنانت كولونيل وهي رتبة توازي رتبة قائد الوحدة استثنائيا.
وفقا للتقارير التي وصلت من لبنان، توقفت المركبة عند حاجز عسكري نصبه عناصر «حزب الله»، الذين كان لديهم معلومات عن نزول قوة تابعة للجيش الإسرائيلي في المنطقة. قدّم أفراد القوة أنفسهم على أنهم من الجيش اللبناني، إلا ان تصرفاتهم أثارت الشكوك، الأمر الذي جعل عناصر الحزب يقومون بإطلاق النيران على القوة الإسرائيلية. وفي المعركة التي جرت أصيب اثنان من ضباط القوة كانت إصابة احدهما خطرة، بينما أُصيب الآخر إصابة طفيفة، اما مورنو فقُتل.
انسحبت مركبتا الجيب بسرعة الى حقل قريب، وقامت طائرات ومروحيات مقاتلة بإطلاق النيران للتغطية على القوة المنسحبة. وهو ما أدى الى إصابة جسر قريب وهدمه، لمنع وصول تعزيزات لـ«حزب الله». وفي نهاية الأمر نجحت مروحيات الإنقاذ بالإقلاع والخروج من المنطقة الخطرة، لكنها تركت وراءها في الحقل معدات لتوجيه الطائرات، وكتب توجيه ولوحا من الشوكولاته.
استُقبلت نتائج هذه العملية في إسرائيل كدليل إضافي على ان كل شيء يحدث في لبنان إنما يحدث بشكل سيئ. فوحدة هيئة الاركان «سييّرت متكال» لم تفقد ايا من مقاتليها خلال عملية عسكرية في أرض العدو منذ مصرع براك شرعبي في إحدى العمليات في الثمانينيات. كما ان ايا من ضباط هذه الوحدة لم يسقط في المعركة منذ موت نير بوراز في عملية إنقاذ الجندي الاسرائيلي نحشون فاكسمان في تشرين الأول 1994، والذي اختطفته حركة «حماس» داخل الخط الأخضر.
اقترح رئيس شعبة الاستخبارات يادلين على المتحدثة باسم الجيش ميري ريغف عدم إعلان موت مورنو، فردت بالقول «سيكون هناك جنازة! وكيف تعتقد انه يمكن إخفاء امر كهذا»؟ وبعد جدل قصير تقرر إصدار بيان بشأن مصرع مورنو. ومع ذلك فإن صورته لم تنشر على الملأ حتى يومنا هذا لأسباب أمنية!