ثبت مقاتلو «فتح الإسلام»، في حربهم مع الجيش اللبناني في نهر البارد التي اندلعت فجر 20 أيار 2007، ثلاثة أشهر وعشرين يوماً. استلزم الأمر حتى الثاني من أيلول من العام نفسه حتى ينسحب عناصر التنظيم من المخيم المحاصر في عملية ملتبسة وغامضة. عندما ضيّق الجيش الخناق على المخيم، قرّر من بقي منهم على قيد الحياة، وهم نحو 70 مقاتلاً، أن الوقت حان للمغادرة. كان الجميع مصابين بدرجات متفاوتة. قسّموا أنفسهم إلى عشر مجموعات تتألف كل منها من سبعة عناصر، وبدأوا بالخروج تباعاً.
نجحت ست مجموعات في الخروج عبر مجرى النهر، بينها مجموعة «أمير» التنظيم شاكر العبسي. توجّه «الأمير» ومجموعته إلى مخيم البداوي، حيث آواهم «الشيخ حمزة»، إمام أحد المساجد (وهو، في المناسبة، نزيل في سجن رومية اليوم)، نحو أربعة أشهر، غادروا بعدها مخبأهم في شاحنة محمّلة أقفاصَ دجاج، وتنقلوا لأيام متخفّين قبل أن يتمكنوا من دخول الأراضي السورية خلسة. هناك بدأ العبسي «يخطط لإخراج الأخوة من السجون».
في ذلك الوقت، بدأت تظهر دعوات «قاعدية» لـ«تأمير» العبسي على بلاد الشام. أبرز الدعوات صدرت عن «أمير دولة العراق الإسلامية» الشيخ «أبو عمر البغدادي»، الذي نقل عنه بيان جاء فيه: «نحمد الله على نجاة الشيخ شاكر العبسي قاهر الصليب، ونسأل الله أن يكون إماماً في بلاد الشام». كانت تلك، بحسب أحد مشايخ السلفية الجهادية الذين تحدّثوا إلى «الأخبار»، «إشارة إلى الشباب المسلم للالتحاق بالشيخ العبسي» الذي كان يعيد بناء التنظيم ويعمل على إعادة جمع شمل المقاتلين.
في الخامس من تموز 2008، اندلعت ما سمّيت انتفاضة سجن صيدنايا، قرب دمشق، التي قتل فيها «نحو 500 سجين مسلم» بحسب الشيخ القيادي في فتح الإسلام. السجن المذكور يؤوي بين 1500 و2000 سجين، من بينهم 200 من الإسلاميين ممن شاركت غالبيتهم في القتال في العراق. الرواية الرسمية السورية ذكرت أن محكومين بجرائم تطرف وإرهاب أقدموا على إثارة الفوضى والإخلال بالنظام العام في السجن واعتدوا على زملائهم أثناء قيام إدارة السجن بجولة تفقدية على السجناء. فيما تحدثت مواقع إلكترونية «جهادية» عن اشتباكات عنيفة اندلعت في سجن صيدنايا «بسبب قيام بعض الحراس برمي المصحف الشريف على الأرض، ودوسه بالأقدام».
مصير
شاكر العبسي يكتنفه الغموض بين القتل والاعتقال (أ ف ب)
يقول الشيخ السلفي إن هذه الحادثة «تركت أثراً بالغاً في نفس العبسي الذي عقد العزم على الانتقام من النظام السوري. بدأ يعد العدّة لتوفير 500 كلغ من مادة السي فور الشديدة الانفجار للهجوم على أحد المقارّ الأمنية، وكان يعاونه شخصان، أحدهما أبو الشهيد السوري». تمكّنت الاستخبارات السورية، عبر أحد المخبرين، من كشف مكان العبسي أواخر عام 2008. «اقتحم عدد كبير من عناصر الأمن السوري الشقة التي كان يختبئ فيها، وتخلل العملية انفجار غامض». منذ ذلك الحين، يؤكد مقرّبون من العبسي، أن «لا أحد علم شيئاً عن مصيره»، مع ترجيح «استشهاده لأنه لم يكن يتنقل من دون الحزام الناسف الذي كان يلفه على وسطه».
هذه المعلومات تتداولها مصادر أمنية، وترجّح بأن السلطات السورية أبلغت نظيرتها الأردنية بمقتل العبسي. وتشير المصادر إلى أن تنظيم «فتح الإسلام»، ردّ على أحداث سجن صيدنايا ومقتل العبسي بتفجير سيارة مفخخة يقودها انتحاري في منطقة القزاز في دمشق في 27/9/2008، أدى إلى مقتل 17 شخصاً وإصابة 65 بجروح. وقُتل في العملية سائق السيارة «الاستشهادي أبو عائشة، وهو من الجزيرة العربية» (سعودي)، فيما أوقفت السلطات السورية سبعة سوريين وثلاثة فلسطينيين ويمنياً واحداً. ومن بين الموقوفين وفاء شاكر العبسي وزوجها ياسر عناد، والمسؤول الأمني في «فتح الإسلام» عبد الباقي الحسين (أبو الوليد).
قبل مقتل العبسي، إن كان ذلك صحيحاً، وأثناء وجوده في سوريا، وقع الاختيار على الفلسطيني عبد الرحمن عوض المعروف بـ«أبو محمد» الذي نُصّب أميراً للتنظيم في لبنان. تؤكد مصادر سلفية لـ«الأخبار» أن «الشيخ أبو محمد توجه عام 2004 للجهاد في بلاد الرافدين، وتولى منصب القائد العسكري في محافظة صلاح الدين التي كان يتولّى إمارتها أبو سيف الأردني. بعد نحو عام ونصف عام في العراق، نسّق عوض مع أبو ربيع، مسؤول الأمن في القاعدة، في شأن عودته إلى لبنان للمشاركة في بناء مشروع للنصرة في بلاد الشام». في لبنان، أقام عوض في مخيم عين الحلوة وعمل بائعاً متجوّلاً للقهوة، وقصد سوريا أكثر من مرة حيث التقى العبسي. إلا أن مشروعه «لبناء مشروع جهادي متكامل في بلاد الشام، لقي صعوبات بسبب قلة مداخيله المالية، والتضييق الأمني، فقرّر الخروج من مخيم عين الحلوة لعدم تحويله إلى نهر بارد ثانٍ، رفقاً بالأطفال والشيوخ والنساء». وتروي المصادر أن عوض أبلغ عناصره في أحد الاجتماعات: «أمامنا خياران: إما قتال الدولة اللبنانية، أو المغادرة إلى دولة جهادية كالعراق. هناك إما نُستشهد، أو ننتصر ونعود بخبرات أكبر إلى بلاد الشام».
خلال معارك نهر البارد (مروان طحطح)
ويقول عضو في «فتح الإسلام» لـ«الأخبار» إن عوض ذهب إلى العراق بنية «سحب الأخوة من لبنان وسوريا إلى بلاد الرافدين لاكتساب خبرات تساعد في التأسيس لمرحلة الشام، باعتبار أن التغيير في الشام قادم يقيناً. أما الهدف الثاني، فكان الاتفاق مع دولة العراق الإسلامية على مشروع إمارة بلاد الشام».
مشروع الخروج إلى العراق بدأ بإرسال عوض ثلاثة «استشهاديين» إلى بلاد الرافدين، هم ابنه هشام وشادي مكاوي وخالد الأفندي. تولى أحد المهرّبين من البقاع إيصالهم إلى سوريا بالتنسيق مع مهرّب سوري، ونجح الثلاثة في الوصول إلى مقصدهم. لذا، قرر عوض الخروج بالطريقة نفسها. لم يكن المهرّب البقاعي يعرف هوية الرجلين اللذين أبلغ استخبارات الجيش بأنه بصدد مساعدتهما على العبور إلى سوريا خلسة. كل ما كان يعرفه أنهما من «فتح الإسلام». في 14 آب 2010، كمنت دورية للاستخبارات للسيارة التي كانت تقلّ الرجلين في شتورة. وبحسب بيان لمديرية التوجيه في الجيش اللبناني، بادر الرجلان اللذان أحسّا بالكمين بإطلاق النار في اتجاه عناصر الدورية، فردّ هؤلاء بالمثل، ما أدى إلى مقتل الرجلين اللذين تبيّن أنهما عبد الرحمن عوض وغازي حمزة المعروف بـ«أبو بكر مبارك».
مثّل غياب شاكر العبسي، سواء قتلاً أو اختفاءً، ومقتل عوض، ضربة قوية لتنظيم «فتح الإسلام». ساد الغموض هيكلية التنظيم، من دون أن يؤثر على «فكره الذي يعتبر أن الطريق الأوحد لإنقاذ الناس هو الجهاد»، بحسب أحد عناصر «فتح الاسلام» الذي يشير إلى أن «حاملي هذا الفكر يعملون ليل نهار لتحقيق دولة الإسلام؛ لأن هدفنا تكوين نظام عالمي إسلامي».
توزّع بقايا عناصر التنظيم على المخيمات الفلسطينية في لبنان، فيما تعرض جناحه السوري الذي يضم نحو 300 مقاتل، لضربة هو الآخر مع إصدار أحكام بالإعدام على خمسة من قيادييه، أبرزهم زوج ابنة العبسي ياسر عناد (أبو إبراهيم) من حماه، والشيخ عبد الباقي المعروف بـ«أبو الوليد»، وهو خطيب جمعة من معرة النعمان، إضافة إلى ثلاثة آخرين بينهم سوري وفلسطيني من مخيم اليرموك. كذلك تشير مصادر سورية إلى وجود خمسين عنصراً في السجون السورية.
«أصحاب المبادئ الحيّة لا يموتون بموت قادتهم، وصدق دعوتنا باستشهاد قادتنا»، بحسب ما يؤكد قيادي في «فتح الإسلام» لـ«الأخبار». ويضيف: «نحن ماضون على الدرب نفسه»، ساخراً ممن يسوّق الاتهامات للتنظيم بأنه «صنيعة النظام السوري» بالقول: «قبل أربع سنوات، قتل هذا النظام الكثير من شباب فتح الإسلام واعتقل نساءهم وحتى أطفالهم، فكيف نكون عملاء للنظام السوري بعد كل ذلك؟».
قبل أربعة أعوام، كان أربعة عناصر من «فتح الإسلام» يقودهم «الشيخ أبو الليث السوري»، في طريقهم إلى العراق لأخذ البيعة الرسمية من قيادة تنظيم القاعدة، فقُتلوا في كمين على الحدود السورية ــــ العراقية. ونعتهم «دولة العراق الإسلامية». تلقّى مشروع التنظيم ضربة، لكنه لا يزال قائماً. المقاتلون القدامى والمنضوون الجدد في حال استعداد، وهم ينشطون في «دعم الثورة السورية» بطريقة لا تُعلَن، في انتظار اللحظة المناسبة للظهور والعمل تحت لواء «القاعدة في بلاد الشام». وهم في ذلك شأنهم شأن بقايا تنظيم «جند الشام» الذي يناهز عدد أنصاره في مخيم عين الحلوة عشرات الأشخاص، يعدّون العدّة في انتظار قيام تنظيم جهادي تزكّيه قيادة القاعدة ويحصل على بيعتها لينضووا تحت لوائه.
هنا يبرز اسم «كتائب عبد الله عزام ـــ سرايا زياد الجراح»، الذي ينشط في سوريا تحت مسمى «سرايا أبو أنس الشامي»، كأحد أبرز التنظيمات المرشّحة لأداء هذا الدور. يقرّ قيادي حارب في نهر البارد بوجود خلاف على الأولويات بين «فتح الإسلام» و«الكتائب». ويوضح أن أولوية تنظيم العبسي هي لقتال أميركا، كاشفاً عن «عملية نوعية يجري الإعداد لها ضد إسرائيل من الداخل أو من لبنان، ولن تكون مجرّد إطلاق صواريخ»، فيما ترى «الكتائب» أن من بين الأولويات قتال حزب الله إلى جانب إسرائيل. لكن المطلعين يؤكدون أن الخلاف سيتلاشى حالما تعطي قيادة القاعدة الكلمة الفصل قبل أن يطل «أمير القاعدة في بلاد الشام».
الشهابي: لو شققت قلبي لوجدت بن لادن
في واحد من المنازل الفقيرة الرابضة على كتف «جبل اللبن»، في مخيم عين الحلوة، يقضي أسامة الشهابي أيامه. في المنزل المتواضع، يستقبل الشيخ ذو اللحية الحمراء والشعر الطويل، المولود عام 1972، زواره بابتسامة هادئة. يستأذن مغلقاً الباب ليعود بعد دقائق. يشدّ على أيدي زواره بقوّة تؤكد ما يقوله عارفوه عن ممارسته رياضات الكاراتيه والملاكمة والتاي بوكسينغ لسنوات عدة، قبل أن يتوقف عن ذلك بعدما علم بحرمتها لجهة «عدم جواز ضرب المسلم على وجهه». يسارع إلى لملمة الأشياء المبعثرة. يسترعي الانتباه رشاشا كلاشنيكوف متكئين قرب الباب، وبقربهما دراجة هوائية لطفل. على الجدران، رفوف من الكتب الدينية تزينها رايات سوداء، كُتب على إحداها «الجنة تحت ظلال السيوف».
يبدأ الشهابي حديثه لـ«الأخبار» بنفي ما يشاع عن توليه إمارة تنظيم «فتح الإسلام» بعد مقتل عبدالرحمن عوض. يؤكد أنه لم ينضم إلى أي حركة إسلامية منذ انسحابه من تنظيم «جند الشام» عام 2003، علماً بأنه كان أحد مؤسسي هذا التنظيم، إلى جانب عماد ياسين وأبو يوسف شرقية، قبل أن يحُلّ لاحقاً، مشيراً إلى أن الولادة «كانت خاطئة في الأصل». يتميّز الشهابي بتبنيه مواقف فقهية لا تتوافق مع آراء كثيرين من الأصوليين المتشددين في العديد من الأمور. فهو، على سبيل المثال، يكاد ينفرد باعتباره أحاديث آل بيت رسول الله مصدراً من مصادر التشريع، إضافة إلى القرآن والسنة. كذلك فإنه «لا يقول بقتال حزب الله في لبنان»، بعكس الموقف الذي ذهبت إليه كتائب عبد الله عزام والتنظيمات المتشددة الأخرى. ويبرر ذلك، بأن «حزب الله لم يقاتلنا فلماذا نقاتله؟». يرفض بدء المعركة مع الحزب، مع «ضرورة رد الاعتداء من أي جهة أتى».
يؤكد الشهابي أنه «مؤمن بمبدأ أن الجهاد فرض واجب على كل مسلم حتى تتحقق دولة الإسلام في الأرض». ويربط بين «أحداث الربيع العربي وهجمات 11 أيلول التي كانت بداية انهيار النظام الأميركي». ويشدد على أنه منخرط في مشروع «ضرب اليهود والمشروع الصهيوصليبي».
«لو شققت قلبي لوجدت فيه شيخ المجاهدين أسامة بن لادن » عبارة يكررها الشهابي، كافية لشرح علاقته بزعيم تنظيم القاعدة الراحل. ليس فقط عاطفياً، بل ينطلق منها ليعلن صراحة ارتباطه بـ«مشروع الجهاد العالمي» الذي يتبنّاه تنظيم القاعدة. يُعرب الشهابي عن «شوق متجذر في أعماقي للجهاد من أجل إعلاء كلمة الله»، فالمسلم «غريب أينما وُجد حتى تأسيس دولة الإسلام».