تصل إحدى السيدات إلى صندوق المحاسبة في "السوبر ماركت" وهي تسحب عربة تحتوي على ما تعتبره "الأساسيات": "juste le necessaire"، تقول بالفرنسية.
تجهز السيدة الخمسينية ورقة المئة ألف ليرة لبنانية، فيما تتسمر عيناها على الشاشة الصغيرة التي تعلو آلة المحاسبة. "أعد الحساب من فضلك"، تطلب من الموظف لأن "حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر". في بالها أن جلَّ ما ستدفعه لن يتعدّى الخمسين أو الستين ألف ليرة، لكن أن يصل إلى حدود الثمانين ألفا، فهذا يعني أن عليها مراجعة حسابها، والمتوجبات عليها، وما سيبقى من نقودها حتى نهاية الشهر، لتحسم ما إذا كانت ستمد يدها إلى العشرين ألفا المتبقية من المئة، أم أنها ستكتفي بما هو "ضروري" من "الأساسيات".
أما وقد لجأت إلى الخيار الثاني، فقد تمتمت بعض الكلمات غير المفهومة وهي ترد من عربتها نوعاً من الفاكهة وآخر من أدوات التنظيف، ومجموعة أكواب كانت تعتبرها من الأساسيات "لأنه ما في كوب مثل الثاني في البيت، عيب إذا أتانا زوّار".
دفعت السيّدة فاتورتها وحملت أكياسها وهي ترفض ان يحملها أحد العمال إلى سيّارتها: "شو بعد بدي أعطيكم ألف. وشو هالحمل الثقيل كيسين ثلاثة صار بدهم زلمي!".
بالنسبة لتلك المرأة أصحاب "السوبر ماركات" "ملاعين". تقول إنها لا تعرف أياً من الأصناف تمّ رفع أسعارها، لكنها تقسم أن الأغراض ذاتها كانت تدفع ثمنها الشهر الماضي أقل بعشرين ألف ليرة.
قد لا يتكرر ما حدث مع تلك المرأة مع أكثر من متبضّع، وفي أكثر من "سوبر ماركت" أو حتى دكان صغير، لأن الزبائن باتوا يحسبون فواتيرهم قبل الوصول إلى الصندوق. وأن كانوا يتفاجأون في بعض الأماكن بأسعار مغايرة عن تلك المكتوبة تحت السلعة "فإما أن أصحاب "السوبر ماركت" يقصدون التضليل، وإما هم يسيئون إدارتها، فيدرجون أسعار بعض السلع من دون احتساب الضريبة على القيمة المضافة"، بحسب أحد الزبائن.
ويشير زبون آخر إلى اتباع سياسة مشتركة من قبل هؤلاء، تقضي برفع أسعار الأجبان والألبان، وبعض السلع كأدوات التنظيف، والإبقاء على أسعار الخضار والفاكهة واللحوم ومشتقاتها كما هي عليه.
يجزم معظم المتبضعين بأن الأسعار ارتفعت عندما بدأ الحديث عن زيادة الأجور المرتقبة للموظفين "والزيادة التي يحاول تمريرها أصحاب "السوبر ماركت" بشكل غير ملحوظ، أدرجت في أمور أخرى "على عينك يا تاجر" كتسعيرة الاشتراك في المرأب وبدل تصفيف الشعر... ناهيك عن أقساط المدارس والحضانات"، يقول أب لثلاثة أولاد أتى بهم إلى المجمع التجاري الكبير بهدف الترفيه.
لا يعرف المواطنون اللبنانيون أيا من السلع خضعت إلى زيادة في أسعارها. يشير بعضهم إلى ارتفاع في أسعار الخضار والفاكهة واللحوم، أي الأساسيات، بينما يجزم البعض الأخر إلى بأن "لعاب" التجار سال عند الحديث عن الزيادة، فرفعوا أسعار الكماليات، قبل إقرارها حتى.
في جميع الأحوال، يؤكد أكثر من واحد منهم أن اللبناني بدأ بدفع ثمن الزيادة قبل أن يتقاضاها. أما الحديث عن اعتراض أو شكوى أو حتى تظاهرة ضدّ الغلاء، فلا يثير لدى المتبضعين سوى الضحك والاستهزاء "نحن في لبنان. ما من حسيب وما من رقيب"، يقولون، فيما يعلّق شاب عاد إلى لبنان مؤخراً "نحن في بلد مصاصي الدماء".
حال "السوبر ماركات" لا يشبه حال الدكاكين الصغيرة "لأن الزبون يحفظ أسعارنا، وغالباً ما يأتي إلينا لاستكمال أغراض يكون قد نسي شراءها من "السوبر ماركت"، ونحن نتبع سياسة الربح القليل لبيع أكثر"، يقول صاحب دكان صغير في منطقة الدورة. يرفع البائع علبة لبنة ويشير إلى سعرها، مؤكداً أنها أقل بسبعمئة وخمسين ليرة من سعرها في "السوبر ماركت"، وهو يتحدث عن جشع "التجار الكبار".
ربما لا تنطبق حال الجشع على كل "الكبار"، كما "الاكتفاء" على كل "الصغار"، لكن يتشارك جميع المتبضعين في لبنان دهشتهم من الأسعار، ومن الفاتورة التي يدفعونها سواء في "السوبر ماركت"، أو ثمناً للمياه والكهرباء والملبس أو حتى الاستشفاء...
الدولة ومراقبة الأسعار
في تشرين الثاني من العام الماضي شكّل وزير الاقتصاد والتجارة نقولا نحاس لجنة خاصة لمراقبة الأسعار وضبطها، وهي تضمّ عدداً من نقباء أو أعضاء النقابات الخاصة بالمنتجات والمواد الغذائية. أراد الوزير من خلال اللجنة "وضع حلول للمشاكل التي تؤدي إلى رفع أسعار السلع الغذائية"، وفق ما جاء في قرار تشكيلها.
تتلقى اللجنة تقريراً أسبوعياً عن أسعار السلع من حوالى ثلاث وخمسين نقطة بيع، من بينها خمس وعشرون "سوبر ماركت"، وحوالى ثلاثين متجراً لبيع الخضار واللحوم، بحسب ما يفيد به رئيس المكتب الفني للأسعار الدكتور علي برّو. يلفت برو إلى أن التقارير تعدّ أسبوعياً بسبب التلاعب بالأسعار الذي كان يحصل قبيل إعداد التقارير الشهرية، موضحاً ان بعض التجار كانوا يلجأون إلى خفض أسعارهم قبيل إعداد التقارير، ليعودوا ويرفعوها بعيد تقديمها.
ويشمل التقرير الأسبوعي حوالى ستين سلعة تشكّل سلّة مصغّرة لتلك التي تعتمدها الوزارة في إعداد تقريرها الشهري، والتي تشمل حوالى 650 سلعة. وتقدّم "السوبر ماركات" لوائح أسعارها مباشرة إلى الوزارة، فيما يجول مراقبو الوزارة على متاجر اللحوم والخضار لوضع لوائح الأسعار، وفي بعض الأحيان للتأكد من لوائح "السوبر ماركات".
وفي كل أسبوع يتم رصد حركة الأسعار، صعوداً أو نزولاً، كما تتم مقارنتها عالمياً، لتوضع بعدها النقاط الحمراء حول الأسعار ذات الارتفاع غير المبرر. ويشير برّو في هذا الخصوص إلى "أن أي ارتفاع غير مبرر للأسعار يقابله حق الوزارة باستخدام قرار تحديد الأسعار، الأمر الذي حصل منذ أكثر من شهرين، حين لحظت الوزارة ارتفاعاً في أسعار البيض، وصل إلى حدود الأربعين في المئة. يومها برّر مستوردو الدواجن الارتفاع المفاجئ بأنهم يخسرون، وقد انتظروا فترة الطلب لرفع سعره، وبأن مرضاً أصاب الدواجن فنفق منها عدد كبير، كما ان صادرات البيض ارتفعت، لا سيما على العراق، ما خفّض من كميتها في السوق اللبناني مقارنة بالطلب. لكن عندما تحققت الوزارة من تبريرات المستوردين، وجدت أن صادرات البيض لم ترتفع، فأجبرتهم على خفض أسعاره حتى تحوّل من اثني عشر ألف ليرة إلى حوالى السبعة آلاف.
وفي آخر تقرير أعده المكتب الفني، أي للأسبوع الذي سبق السادس عشر من الجاري، تبيّن في المجمل أن أسعار الفاكهة ولحوم البقر الطازجة والمستوردة قد ارتفعت، في حين انخفض مبيع معظم الخضار ولحم الغنم. ليستقر سعر السلع الغذائية الباقية على ما هو عليه.
وفي تفاصيل التقرير، انخفض سعر الخضار الطازجة 2،7 في المئة عن الأسبوع الذي سبقه، كما انخفض 6 في المئة عن الفترة نفسها من العام الماضي. وارتفع سعر الفاكهة 1،1 في المئة، لكنه بقي منخفضاً عن سعره في الفترة نفسها من العام الماضي بنسبة 4 في المئة.
ومع أن أسعار لحم البقر ارتفعت عالمياً بنسبة 10 في المئة، ارتفع سعر المستورد منها في لبنان واحداً في المئة، لكن سعر لحم الغنم بقي مستقراً على الرغم من انخفاضه عالمياً بنسبة اربعة في المئة.
سعر البيض ومنتجات الحليب لم يرتفع نسبياً عن الأسبوع الماضي (0،1 في المئة) لكنّه ارتفع بنسبة 7 في المئة عن الفترة نفسها من العام الماضي. كذلك لم ترتفع أسعار الحبوب والبذور، والمنتجات الدهنية والزيتية، والمعلبات، والمواد الغذائية المتفرقة عن الأسبوع الماضي. لكن ارتفاعها عن الفترة نفسها من العام الماضي فاق العشرة في المئة، إذ ارتفع سعر المنتجات الدهنية والزيتية 13 في المئة والمعلبات 14 في المئة والمواد الغذائية المتفرقة 13 في المئة. أما الحبوب والبذور والثمار الجوزية فزادت أسعارها بنسبة 27 في المئة.
ويشير برّو في هذا الخصوص إلى أن "منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة" (الفاو) كانت قد حذّرت من ارتفاع أسعار الحبوب، تماماً كما ارتفعت أسعار الذرة، بعدما بات يستخدم في إنتاج الطاقة.
ويوضح برو انه في ظلّ النظام الاقتصادي الحرّ، تتدخل وزارة الاقتصاد في حال زيادة "فاقعة" للأسعار. لكن هذا النظام لا يعني برأيه أن تبقى الأمور متفلتة من سياسات تضبطها وتحدّ من عشوائية التسعير، كأن يصار إلى وضع سياسات زراعية تخفف من نسبة الاستيراد. ومن تلك السياسيات أيضاً وضع حدّ للاحتكارات والوكالات الحصرية، الأمر الذي يعتره الخبير الاقتصادي الدكتور لويس حبيقة ضرورة للحدّ من ارتفاع أسعار السلع "لا سيما ان لبنان بات يعدّ من البلدان الباهظة".
ويوصي حبيقة بتطبيق القوانين والاستعانة بالقضاء وتوقيف المخلين كي يكونوا عبرة لغيرهم. مستشهداً بحادثة ضبط أدوية مزورة وأعلاف فاسدة في مرفأ بيروت، والتي لم يصر إلى معاقبة مستورديها إلى لبنان "بل على العكس تم التستر عنهم"، علماً أن جرمهم لا يقلّ فداحة عن عملاء اسرائيل، لأنهم يعبثون بالأمن الغذائي للمواطنين.
وفي تعبير اقتصادي أدق يدعو حبيقة الحكومة إلى وضع آلية لكفّ حماية الدولة للوكالات الحصرية وتحويل الأسواق اللبنانية إلى أسواق منافسة. وهو يستشهد بالدراسات العالمية التي تبرهن أن كف الاحتكارات وفتح الأسواق من شأنه خفض الأسعار بنسبة ثلاثين في المئة.