لم يعد يجدي الصراخ بـ«مؤامرة» على فايز كرم، أبطالها فرع المعلومات وبعض ضباط الشرطة العسكرية، وبعض القضاء، وفايز كرم نفسه. حاول جزء من سياسيي التيار الوطني الحر تسويق هذه النظرية طوال أشهر. أما اليوم، ومنذ أن أصدرت محكمة التمييز العسكرية حكمها قبل يومين، فلم يعد من حق أحد، أيّ أحد، أن ينبس ببنت شفة حول براءة كرم. إنه عميل لإسرئيل.
وإذا كان ثمة مؤامرة قد ارتكبت، فإن مرتكبيها نفذوها لمصلحة كرم، لا ضده. وهذه المؤامرة أدت إلى تعريض كامل ملف ملاحقة عملاء إسرائيل لخطر التشكيك، بذرائع مختلفة. على المستوى السياسي، قيل إن فرع المعلومات «تابع لتيار المستقبل»، ويصفّي حسابات سياسية مع التيار الوطني الحر. أما على المستوى القضائي، فارتضى القضاء العسكري لنفسه، وبدرجتيه (الدائمة والتمييز)، أن يتصرف مع عميل كما لو أنه سرق مبلغاً من المال ليؤمن قوت يومه، ومن دون كسر أو خلع.
وهذه المؤامرة، كثر طبّاخوها. بعض العونيين لم يخجلوا من القول في الجلسات الضيقة: «وإن يكن. ليس فايز كرم العميل السياسي الوحيد. لماذا لا يوقف فلان أو علان». وبعضٌ آخر منهم وصل إلى حد النقاش في «مفهوم العمالة: هل كل من التقى إسرائيلياً يصبح عميلاً؟»، وكأن الأمر غير مسلّم به.
المحكمة العسكرية الدائمة منحت كرم أوسع الأسباب التخفيفية. حكمته بالعقوبة الدنيا. وبذريعة وضعه الصحي، خفضت محكوميته. تجاهلت تلك المحكمة كون العميل كرم ضابطاً سابقاً، وبالتالي، ينبغي تشديد العقوبة بحقه، وخاصة أنه كان يتولى رئاسة فرع مكافحة التجسس في الجيش. وتجاهلت أيضاً أن مئات الموقوفين في لبنان، وعشرات الذين أنزلت بهم عقوبات مشددة، يعانون من أمراض مزمنة. بعضهم يصارع مرض السرطان خلف القضبان، ولم يرأف بهم أحد. فما هي أسباب النزعة الإنسانية التي هبطت على المحكمة في غفلة من الزمن؟ لا أحد يعلم.
بعد المحكمة العسكرية الدائمة، يأتي دور النيابة العامة التمييزية، بشخص القاضي سعيد ميرزا. دور النيابة العامة هو تمثيل الحق العام. حقوق الناس. في قضايا مماثلة، لا وجود لمدّعين شخصيين. الحق العام بعهدة النيابة العامة. وهي الأكثر تشدداً خلال سير العملية القضائية. وفي حالات خاصة، تكون أكثر تشدداً من أولياء الدم والمظلومين. وهؤلاء، لهم صفة «الادعاء بالمال» لا أكثر. أما قضاء الادعاء، فله صفة «الادعاء العام». وفي الدول التي لها سياسات واضحة تحدد العدو من الصديق، وتقيم لأمنها القومي وزناً، لا يمكن أن يصدر حكم بسجن جاسوس لمدة سنتين، وتقف النيابة العامة مكتوفة الأيدي، من دون الطعن بالحكم وطلب تشديده. أما في بلاد الأرز، ففعلها القاضيان سعيد ميرزا وصقر صقر. لم يطعنا بحكم كرم الأولي، رغم أنهما قالا لسائليهما إنهما سيفعلان ذلك.
ثم أتى دور محكمة التمييز العسكرية التي ترأسها القاضية أليس شبطيني، مرشحة رئيس الجمهورية لرئاسة مجلس القضاء الأعلى. ارتفع قدر المعاملة الإنسانية لكرم، من دون أي مبرر يُذكر. فبعدما منحته المحكمة الأولى أسباباً تخفيفية، وخفضت عقوبته إلى الأشغال الشاقة المؤقتة لمدة سنتين، مع تجريده من حقوقه المدنية، وسّعت محكمة التمييز من مفهوم هذه الأسباب التخفيفية، فحوّلت الأشغال الشاقة المؤقتة إلى الحبس، وبالتالي، أعادت إليه كامل حقوقه المدنية. وطوال اليومين الماضيين، جرى تبادل رسالة نصية على الهواتف تفيد بأن القانون اللبناني يجرّم تكرار «السكر الظاهر» بالتجريد من الحقوق المدنية. وبالتالي، يصبح كأس الويسكي، بنظر مطبّقي القانون اللبناني، أخطر من الاستخبارات الإسرائيلية.
وبعيداً عن الهزل القانوني، ثمة دلالات بارزة للحكم المبرم الصادر بحق العميل كرم، ربما أخطرها:
1 ـــــ العداء اللبناني لإسرائيل نسبيّ. إذ كيف يستقيم أن تبقي الحليفة الأوثق للدولة العبرية، أي الولايات المتحدة الأميركية، جاسوساً إسرائيلياً (جوناثان بولارد) في السجن منذ عام 1986، وترفض الإفراج عنه، فيما سيخرج عميل لإسرائيل من السجن في لبنان بعد سنتين من توقيفه، رغم خطورة موقعه وماضيه، والإمكانات التي كانت متاحة له على الصعيد السياسي، وهو الطامح إلى ما هو أرفع من عضوية مجلس النواب؟
2 ـــــ ليس في لبنان إجماع على مفهوم «الأمن القومي». فثمة من منح نفسه حق القول إن التعامل مع العدوّ لا يعدّ مسّاً خطيراً بالأمن القومي اللبناني، وإلا، لما كانت الجريمة وُضِعت (في حالة فايز كرم تحديداً) في مصاف الجنح والجرائم غير الشائنة التي لا توجب حرمان مرتكبها من الحقوق المدنية.
3 ـــــ ثمة محاولة للقول إن «أبناء الطبقة السياسية» في لبنان لا يُعاقبون. والحديث هنا ليس عن التخلف عن دفع فاتورة الكهرباء وطرد حراس القصور للجباة، بل عن الخيانة العظمى. فمن لا سند لهم من العملاء، يُحكمون بالإعدام أو بالسجن المؤبد أو بالأشغال الشاقة لسنين طويلة (وهم يستحقون ذلك). أما عملاء الصف الأول، وهم ممن يجب التشدد بحقهم أكثر من غيرهم، فلهم ما يقيهم شر العقوبة الحقيقية.
4 ـــــ يُظهر الحكم أن الدولة اللبنانية آخذة يوماً بعد آخر بالاضمحلال، ولم يبق منها سوى شبح هزيل. فبعض القضاء، المفترض أنه الضامن الأول للعدالة، قرر توجيه رسالة للبنانيين تثبت أن أخذ الحق باليد أجدى في هذه البلاد من الوقوف تحت قوس العدالة.