في الحلقة التاسعة عشرة من من كتاب «أسرى في لبنان: الحقيقة عن حرب لبنان الثانية» للمعلّقين الإسرائيليين عوفر شيلح ويوءاف ليمور، راوية لعملية إسقاط مروحية «يسعور» في وادي مريمين غرب بلدة ياطر قضاء بنت جبيل والتي كانت قد انزلت على إحدى تلال منطقة ياطر قائد لواء المظليين حغاي مردخاي، إضافة الى الهيئة القيادية للواء، قبل ان تصاب بصاروخ ارض جو أطلقه «حزب الله» في طريق عودتها الى إسرائيل، فتحطمت واشتعلت، ولقي افراد الطاقم الخمسة الذين كانوا على متنها مصرعهم، فضلا عن المجندة الفنية التي كانت على متن المروحية.
مساء السبت 12 آب، وبينما كانت قوات «الفرقة «162» تحارب في وادي السلوقي و«الفرقة 91» توسع سيطرتها في المنطقة الغربية من الجبهة، كان لواء المظليين بقيادة حغاي مردخاي، مع قوات إضافية من لواء الاحتياط « المركزي» يستعدان، لعملية النقل الجوي الكبيرة. وكان جنود لواء « الاحتياط» في معظمهم، أصبحوا في مناطق ياطر وزبقين وصدّيقين من الليلة السابقة: قسم منهم نقل الى داخل لبنان بالمروحيات، في حين شقت قوة أخرى بإمرة قائد لواء «الاحتياط « إيتي فيروب طريقها مشياً على الأقدام وانضمت إليهم. وللمرة الاولى، مكثت قوات الجيش الإسرائيلي في قلب منطقــة هي واحــدة من أكبر المناطق التي يستخدمها «حزب الله» لإطـلاق الصواريخ.
العملية التي عُرفت بأنها اكبر العمليات المنقولة بالمروحيات في تاريخ الجيش الإسرائيلي، كانت بحسب رأي كثيرين ممن شاركوا في التحقيقات التي جرت بعد الحرب، مجرد خطوة بلا داع. ومع أنها كانت مهمة جديرة بالتنفيذ، وعلى الرغم من ان قسماً من القوات وبشكل رئيسي لواء الاحتياط المظلي «المركزي»، قد احرز إنجازات جيدة، فإن فكرة إنزال قوة كبيرة للغاية، في قطاعات معينة على مسافة كيلومتر ونصف كيلومتر فقط من القوات التي كانت هناك، بدت مخاطرة غير محسوبة، إذ كــان يفترض في مسافة كهذه السير مشياً على الأقدام. وهذا هو الإجراء الذي طلب قسم من القوات القيام به في الأيام التي سبــقت ذلك، غير أن هذا الطلب قوبل بالرفض. وقد لخص قائد المنطقة الشمالية السابق الجنرال عميرام ليفين، في التقرير الذي وضعه بعد الحرب، هذا الموضوع بطريقته المميزة عندما قال «الحماقة تبقى حماقة، حتى لو تكللت بالنجاح».
إخفاقات في توجيه سلاح الجو
عانى فيروب أيضاً جرّاء إخفاقات القيادة والتحكم. وبما أن سلاح الجو كان المسؤول عن استخدام وسائل إطلاق النار عن بُعد، فقد تطلب الأمر أكثر من مرة، زمناً طويلاً منذ اللحظة التي تعــرف فيها فــيروب ورجاله الى الأهداف التي يجب ضــربها حتى اللحــظة التي تمت فيها مهاجمتها: ففي إحدى الحالات لاحــظ المظليون وجود خلايا مضادة للدروع تابعة لـ«حزب الله»، وتطلق صواريخ من طراز «ســاغر» في اتجاه دبابة إسرائيلية، لكن لم يكــن في إمكان قائد لواء «الاحتياط» ورجاله ضرب هذه الخــلايا بأنفسهم، غير أن سلاح الجو لم يصل الى المكــان إلا بعد خمس ساعات.
في نهاية الأمر كانت قوة الاحتياط المظلي هي الرد الناجع للغاية للجيش الإسرائيلي على صواريخ الكاتيوشا في منطقة مشبعة بمنصات الصواريخ، ولم يكن الجيش وصلها إلا في 12 آب. ولهذا استعد جنود قائد المظليين مردخاي للانضمام الى فيروب ومقاتليه في القطاع المركزي. ومع ان لواءين من قوات المظليين يعتبران قوة جوهرية، إلا ان الوقت كان يعمل ضد فعاليتهما، فالقرار 1701 كان قد صدر في الأمم المتحدة. وهكذا، بين الساعات الـ60 التي حصل عليها رئيس الأركان دان حالوتس من رئيس الحكومة إيهود اولمرت، لم يكن متبقياً إلا 36 ساعة.
ولقد كان واضحاً للجميع أن الأمين العام لـ«حزب الله» (السيد) حسن نصر الله سيصر على توجيه الضربة الأخيرة وسيطلق صواريخه على شمال إسرائيل كي يُظهر انه يصل الى وقف إطلاق النار في الوقت الذي لا يزال يقف على قدميه. وبما أن ألوية المظليين لم يتم استخدامها إلا في اليومين الأخيرين فقط من القتال، فقد كان واضحاً انه ليس في الإمكان خلال هذين اليومين، خفض منصات الصواريخ بمستوى يمكّن إسرائيل من القول إنها تمكنت من صد هذه الصواريخ بنفسها.
التشكيك بجدوى العملية
كان هذا اعتقاد قائد المنطقة الشمالية أوي أدام ايضاً، الذي ألحّ فترة طويلة من أجل تنفيذ خطة «مي ماروم» أي «مياه الأعالي» (التي ذكرنا تفاصيلها في الحلقات السابقة) ولم تتم الاستجابة لمطلبه، كان مقتنعاً بأن التركيز المشبع بالمصابين لا معنى له في الساعات الأخيرة التي لن تؤدي الى أي إنجاز. كما أن توقف «الفرقة 162» في السلوقي، والمعركة الفاشلة التي خاضتها فرقة عمــود النار بقيــادة إيرز تسوكرمان، في منطقة مرجعيــون ـ الخيام، اضعفا أكثر فأكثر روحه المعنوية. وكانــت ليلة الجمــعة السبت أي بين 11 و12 آب ملأى بالعثرات المتعــاقبة، مثلا، قامت إحدى الدبابات بدهس جنديين كانا نائــمين على الطريق! وكان هناك إحساس لدى قائــد المنطقة الشمالية بأن العملية العسكرية لن تحرز أي شيء جوهري.
وكان رئيس شعبة العــمليات غادي أيزنكــوت يفكر مثله، حيث وجد الأخير نفــسه وعلى امتــداد الحرب في وضع دقيق بصــورة خاصة، فهو عارض العمليات البرية الكبيرة، واعتــقد أن الغارات العسكرية التي تنفذ في المنطــقة الحــدودية لا تنــطوي على أي فائدة.
منذ اللحظة التي اتُخذ فيها القرار الحاسم، كان أيزنكوت هو الشخص الذي كان يتوجب عليه تحويل هذا القرار الى أوامر تنفيذية. وسُئل أيزنكوت بعد الحرب في حديث خاص لماذا لم يخبط على الطاولة و يتجادل بحزم أكبر مع حالوتس؟ فرد قائلا «الامر الوحيد الذي كان في إمكــاني فعــله هو تقديم الاستــقالة، إذ أننا لا نستــطيع إدخال رئيــس الأركان الى المعتــقل».
بعد ظهر السبت، أدار إيزنكوت جلسة لتقويم الوضع على مستوى هيئة الاركان، وكان يجلس الى جانبه رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية عاموس يادلين وقائد سلاح الجو الجنرال اليعازر شكدي، بينما كان كل من حالوتس وادام وقائد الذراع البرية بني غانتس في الشمال. وفي تلك الجلسة قال أيزنكوت ان» الانجاز السياسي تم إحرازه وستصادق حكومة لبنان بعد قليل على وقف إطلاق النــار، كما أن حكــومة إسرائيل ستفعل ذلك غداً. ولهذا لا يوجــد أي معنى لمواصلة إرسال القوات الى الميدان». كان رئيس هيئة الأركان حالوتس حازماً تماماً كما كان في الأيــام الأولــى للحرب وقد صرح قائلاً «بالنسبة إليّ ثمة ضرورة لتطبيق الخطة، ويجب المضي الى الأمام من دون أي تغيير».
انتهت جلسة تقويم الوضع وفي الساعة السادسة والدقيقة الثلاثين مساء، تقدم المشاركون في مقر هيئة الأركان في تل أبيب من أيزنكوت طالبين منه مواصلة الضغط، قائلين له «عليك وقف هذا الأمر» فسارع احد الحضور وهو السكرتير العسكري لوزير الدفاع الى رئيسه عمير بيرتس ليخبره بذلك. في وقت لاحق، تم استدعاء أيزنكوت بصحبة يادلين الى مكتب الوزير بيرتس، وهناك كان دنغوت يجلس مع المدير العام لوزارة الدفاع غابي أشكنازي.
وتوجه بيرتس بسؤال الى أيزنكوت قائلاً «ما رأيك في مسألة استمرار عمليات النقل الجوي؟». وكان إيزنكوت مرتبكاً، ففي ذلك الوقت كان حالوتس داخل استديو القناة العاشرة. شعر أيزنكوت انه من غير الملائم ان يعرض رأيه الشخصي بغياب حالوتس فقال «انت تعرف رأيي» لكن بيرتس اصرّ على سؤاله فأجابه أيزنكوت: «إذا ما أردت الاستماع الى رأيي فعليك إحضار حالوتس الى هنا». في اعقاب ذلك اتصل بيرتس بحالوتس الذي كان ينتظــر المقابلة المتلفزة، مكرراً موقفه بالقول انه يجب مواصلة العملية العسكرية، كما ان نائب رئيس الأركان موشــيه كابلينسكي الذي شارك في الحديث من الشمال عبر نظام الفيديو كونفرس، وافق حالوتس على رأيه. وقَبِل بيرتس موقفهما.
الساعة السادسة مساء، صادقت حكومة لبنان على القرار 1701، وهكذا اصبح وقف إطلاق النار حقيقة ثابتة، ولم يكن في إمكان إسرائيل معارضة قرار الولايات المتحدة بطبخــه في الامم المتحدة، وهو قرار قررت حكومة الرئيس فؤاد السنــيورة (التي هي بمــثابة بؤبؤ العين بالنسبة الى الإدارة الأمــيركية) قبوله كما هو. وقد حصل ادام وأيزنكــوت كل في مكانه على دعم لإحساسهما انه لا يوجد أي معنى لاستمرار تعريض القوات للخطر في وضع لن يتحقق فيه أي إنجاز لإسرائيل.
عمليات النقل الجوي
وكان من المفــترض في الثامنة مساء، ان تبدأ مروحيات «يسعور» بنقل قوات المظلــيين الى القطاع المركزي، وكان هدف هذه العملية قريباً جــداً من لــواء الاحتياط «المركزي» في منطقة ياطر. وفي الواقــع فإن الجيش الإسرائيلي عــزز قواته في المنطــقة التــي كان متواجداً فيها، ولم يقــم بنشرها في قطاعات أخرى.
بدأت عمليات النقل الجوي للواء «المظلي» النظامي متأخرة، بعد ظهور البدر مكتملاً، كما أن نقاط الهبوط في الجنوب اللبناني محدودة بسبب طبيعة الأرض المنحدرة والمتشابكة. ومع أن سلاح الجو بذل جهوداً كبيرة كي لا يستخدم المواقع نفسها التي سبق أن استخدمها في الليلة السابقة، غير أن التغيير لم يكن إلا في مسافات من بضـع مئات من الأمتار.
وتوجه مردخاي ومجموعة قيادية أُخرى في مروحية «يسعور» كان على متنها بالإضافة الى قائد اللواء، نائبه وعدد من المقاتلين وحتى صحافي واحد.
كانت الساعة العاشرة إلا ربعاً مساءً عندما دُعي حالوتس لحضور جلسة النقاش لدى وزير الدفاع، اما أيزنكــوت فإنه لم يكــن راغباً في حضور النقــاش، فتوجه بسرعة الى غرفة القــيادة التابعة لسلاح الجو. وكان المشــهد الذي رآه هناك عندما دخل الغــرفة مشهداً يحبس الأنفاس، إذ ظهرت علـى الشــاشات مروحية تشتعل.
المروحية التي طار فيها قائد المظليين ومجموعة قيادة اللواء أنزلت المقاتلين ثم أقلعت في طريق عودتها إلى إسرائيل، لكن صاروخاً أُطلق من الأرض أصاب المروحية فتحطمت واشتعلت، ولقي أفراد الطاقم الخمسة الذين كانوا على متنها مصرعهم. وكانت عملية استعادة جثثهم معقّدة. وكانت المجندة الفنية التي كانت على متن المروحية، كيرن تندلر، المجندة الوحيدة التي قُتلت في الحرب، ولم يتم العثور عليها إلا بعد وقت طويل، حين نجح مقاتلو وحدة «شلداغ» أي وحدة الإنقاذ التابعة لسلاح الجو في تحديد مكان الجثة واسترجاعها.
شاهد مردخاي الاصابة التي لحقت بالمروحية، وقرر عدم إرسال طاقم إنقاذ الى مكان تحطمها، ولا سيما ان هذا المكان كان قريباً جداً من قوات لواء «الاحتياط». كما ان اكثر ما كان يخشاه هو حدوث إطلاق نيران عن طريق الخطأ من جانب قوات إسرائيلية ضد قوات إسرائيلية أخرى. أما الجنود البالغ عددهم نحو 200 جندي الذين كانوا نزلوا من المروحيات، فتجمعوا من اجل البدء بالتحرك سيراً على الأقدام في اتجاه هدفهم، إلا انه بعد مرور بضع دقائق تلقى مردخاي امراً بالتوقف، إذ قرر كل من قائد فرقة التشكيل الناري البريغادير إيال إيزنبرغ، وقائد المنطقة الشمالية أدام، الوقف الفوري لعملية النقل الجوي تحسباً من تعرض مروحيات أخرى لضربات الصواريخ. ومع أن هذين القائدين كانا قد تشاورا مع قائد سلاح الجو شكدي الذي قال إن مواصلة العملـية ممكنة، إلا ان ادام كان حازماً في موقفه.
لقد كان واضحا لقائد المنطقة الشمالية ان «حزب الله» تمكّن من تحديد نقاط هبوط المروحيات، كما أدرك انه يمكن للكارثة أن تكون اكبر كثيراً لو أن الصاروخ أُطلق قبل هبوط المروحية، إذ لكان أدى الى قتل العشرات من الأشخاص، بمن فيهم الهيئة القيادية للواء المظليين.
حاول مردخــاي الدخــول فــي جــدال، إلا أن الأمــر الصادر كان قاطعاً. ومنذ اللحــظة التــي أصيبت مروحية «يسعور» توقفــت عملــية النــقل الجوي كلها، وحتى حين دخول وقف إطلاق النار حيز التنــفيذ، بقي قائــد المظليــين ومقاتـــلوه في الميدان من دون ان يفعلوا شيئاً كثيراً. إضافة الى ذلك، لم يرغـــب مقــاتلو «حزب الله» في دخول مواجــهة لا لزوم لها، مع أنهم حاولوا التصويب على المظلــيين بقذائــف هــاون. وبعد ان دخل وقــف النار حيــز التنــفيذ بدأ لواءا المظلــيين النــظامي والاحتيــاط رحلة العودة الى إسرائيل من دون ان ينجزوا شيئاً كثيراً.
(في الحلقة المقبلة: أزعجهم الغبار فجاءهم الصاروخ)