"حوض المشرق"، الذي تصل مساحته الى 83,000 كيلومتر مربع، يشمل لبنان وسوريا وقبرص واسرائيل وقطاع غزة، وتقدر مؤسسة "المسح الجيولوجي الاميركي" ان هناك حوالى 1.7 مليار برميل من النفط الذي يمكن استخراجه و122 تريليون قدم مكعب من الغاز. المسؤول عن تقييم الغاز والنفط في هذا الحوض في "المسح الجيولوجي الاميركي" كريس شينك يقول لـ"السفير" ان المؤسسة قامت مؤخرا بمسح شمل 150 حوضا "لما نعتبره أحواضا أولوية حول العالم"، وكان "المشرق" ضمن اللائحة لا سيما إمكانات الغاز فيه. ويؤكد شينك ان المؤسسة باعتبارها جزءا من الحكومة الاميركية "لا يُسمح لها القول" ما هي حصة كل بلد في هذه الموارد "لان ليس لدينا حدود الخط البحري النهائي".
ويقول مسؤول في وزارة الخارجية الاميركية لـ"السفير" ان الولايات المتحدة "تدعم حق كل بلد في وضع إطار قانوني لاستكشاف النفط والغاز"، ويرى ان "احتمال العثور" على الغاز والنفط في "حوض البحر الابيض المتوسط سيكون تطورا إيجابيا في توفير أمن الطاقة في لبنان". ويتابع المسؤول الاميركي "فيما تنظر حكومة لبنان بدء التنقيب عن الهيدروكاربون قبالة الشاطئ، نحن نشجعها على الدخول في حوار مفتوح مع شركات الطاقة والمنظمات غير الحكومية وجهات معنية أخرى لضمان ان ثروة الموارد الطبيعية المحتملة يتم استغلالها على نحو مستدام ويتم استخدامها لمصلحة الشعب اللبناني".
الارتباك الدبلوماسي الذي قام به لبنان في تموز وتشرين الاول عام 2010 كان برفع خريطة للاحداثيات الجغرافية الى الامم المتحدة قبل التراجع عن هذا الامر في تشرين الثاني الماضي، بعد تصديق قبرص واسرائيل على اتفاق الحدود المائية في شباط 2011، ولبنان اعترض على هذا الاتفاق في رسالة الى الامم المتحدة في حزيران الماضي باعتبار ان هذا الرسم الحدودي يقتطع أجزاء من الحدود اللبنانية. وهناك في هذه الاثناء، محادثات بين لبنان وقبرص لمراجعة الاتفاق بينهما وإزالة أي تناقض مع حقوق لبنان، لا سيما ان البرلمان اللبناني لم يصدّق على اتفاق الحدود المائية بين البلدين بالصيغة التي أقرت عام 2007.
لبنان وجّه رسالة الى الامم المتحدة في ايلول الماضي يشكو فيها ان اسرائيل اقتطعت مساحة 860 كيلومترا مربعا من المياه اللبنانية، ردا على الاحداثية الجغرافية التي أودعتها اسرائيل في تموز 2011. وصحيفة "هآرتس" الاسرائيلية أوردت في تموز الماضي ان المسؤول في وزارة الخارجية الاميركية فريد هوف تابع هذا الملف وطلب من المسؤولين الاسرائيليين التعاون بهدف ترسيم الحدود المائية مع لبنان.
يقول المسؤول الأميركي لـ"السفير"، في هذا السياق، "خلافا لبعض التقارير، لم تتخذ الولايات المتحدة أي موقف بشأن صحة مطالب لبنان أو اسرائيل المتداخلة بالمنطقة الاقتصادية الخاصة" اوExclusive Economic Zone أي المنطقة البحرية التي لدى دولة معيّنة بموجب قانون البحار حقوق خاصة فيها لاستكشاف الموارد البحرية واستغلالها، بما في ذلك إنتاج الطاقة. ويؤكد المسؤول الاميركي ان "وجود مطالبات متداخلة من قبل اسرائيل ولبنان يجب ان لا تُستخدم كذريعة لتجدد النزاع"، وأضاف "نحث الطرفين على حل خلافاتهما عن طريق المفاوضات. حل متفاوض عليه يسمح لكلا الطرفين باستغلال موارد الطاقة قبالة الشاطئ استغلالا مربحا".
الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية والمسؤول السابق في وزارتي الطاقة والخارجية في واشنطن الان هيغبرغ يقول لـ"السفير" ان "هناك دائما سبلا للتعامل مع هذه المفاوضات خارج الاطار السياسي، اذا كان كلا الطرفين على اسـتعداد للقيام بذلك". ويذكر ان الولايات المتحدة حاولت سابقا تشجيع ترتيبات حدودية حول التنقيب عن الغاز في المنطقة ولم تكن هذه المحاولات "ناجحة دائما، لكنها دعمت ذلك في الماضي وأظن انها قد تدعم ذلك في المستقبل".
المرسوم الذي صدر العام الماضي عن الحكومة اللبنانية ويحمل الرقم 6433 ينص في مادته الثالثة على انه "يمكن مراجعة حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة وتحسينها، وبالتالي تعديل لوائح إحداثياتها عند توافر بيانات أكثر دقة ووفقا للحاجة في ضوء المفاوضات مع دول الجوار المعنية"، أي تركت الباب مفتوحا على تفاوض محتمل. لكن بحسب المصادر الحكومية الاميركية واللبنانية التي تحدثت إليها "السفير"، ليس هناك الآن أي وساطة أميركية في هذا الملف، لكن الطرف اللبناني "يرحب بأي دور اميركي في حال دعت الحاجة" وواشنطن لا تمانع ان تلعب دور "المسهّل" اذا دعت الحاجة ايضا. هناك تقدير أميركي لمشروع التنقيب في لبنان ومتابعة له، مع طلب من كل الاطراف في المنطقة بالهدوء في التعامل مع هذا الملف و"عدم تحويله الى قضية كبرى" لان الكثير من الدول حول العالم لديها مشاكل مشابهة.
الموقف اللبناني حتى الساعة ان الحكومة ماضية بالتنقيب عن النفط هذا العام في مناطق بحرية غير متنازع عليها، وان اسرائيل "كانت تاريخيا تنشئ مناطق عازلة في أراضي الدول المجاورة لها"، كما تؤكد أوساط رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي على "محاولة معالجة هذه القضية بالقنوات الدبلوماسية والقانونية، وإلا لكل حادث حديث". أما وزير الطاقة جبران باسيل فيقول لـ"السفير" ان مسألة الحدود ليست "موضوع نقاش" وان "ليس هناك ما يحتاج للتفاوض عليه" ويضيف "قبرص ارتكبت الخطأ وهي تقوم بتصحيحه"، مشيرا الى ان الموقف الاميركي حيال مسألة الحدود المائية مع اسرائيل "إيحابي".
المشكلة اذا لجأت اسرائيل الى مبدأ "حق الاستيلاء" أي من يصل اولا يحصل على الموارد المتنازع عليها، وهذا قد يضر بهذا الاحتياط الطبيعي وقد يؤدي الى تصعيد التوتر، لا سيما ان اسرائيل ليست موقعة على اتفاقية الامم المتحدة لقانون البحار (لبنان وقعها عام 1995)، ما يعني ان الامر يتطلب تفاوضا بين الجانبين اللبناني والاسرائيلي عبر الامم المتحدة في صيغة بحرية مشابهة للخط الازرق في العام 2000. "اليونيفيل" عرضت المساعدة لترسيم الحدود المائية في تموز الماضي خلال اجتماع ثلاثي مع الجانبين اللبناني والاسرائيلي، لكن هذا الامر مستبعد حتى الآن كما هو مستبعد خيار التحكيم الدولي الذي يحتاج الى قبول الطرفين، وبالتالي يبدو كأن هناك براغماتية تحكم كل الاطراف المعنية بسبب المصالح المترتبة على أعمال التنقيب.
لبنان يريد ترسيم الحدود المائية وقلق من أي تغيير في معادلة قرار مجلس الامن الدولي 1701، واسرائيل تريد اتفاقا أو تفاوضا شاملا على كل الحدود كشرط لقبول الاقتراح اللبناني. الرسالة الاميركية ان ضمن المياه الاقليمية اللبنانية ما يكفي لتنقيب الغاز وبالتالي يجب الاستفادة من ذلك لبنانيا، وفي المقابل، تقوم اسرائيل بالامر ذاته ضمن حدودها، أي لا ضرورة لتنافر بين الطرفين حول مسألة الحدود. الموقف اللبناني يستبعد أي طرح بالتفاوض المباشر مع اسرائيل في هذه المسألة، والمسؤول الاميركي يرفض التوسّع في فكرة التفاوض المطروحة، وبالتالي يبدو الرهان اللبناني ان تنضج الامور في مرحلة ما وتسمح بتسهيل اميركي لتسوية من خلال الامم المتحدة أو "اليونيفيل" تحديدا.
الاولوية الاميركية طبعا هي للاستقرار في المنطقة ولحماية الشركات الاميركية التي تعمل على التنقيب في اسرائيل وقبرص أي بالتحديد شركة Noble Energy التي اكتشفت احتياط الغاز حوالى 130 كيلومترا قبالة شاطئ حيفا في 29 كانون الاول 2010. والسفير الاميركي لدى اسرائيل دان شابيرو زار في 18 تشرين الاول 2011 سفينة "سوليتير"، التي تمد خط الانابيب الذي سيضخ الغاز عبر البحر، مؤكدا على اهمية المشروع للاقتصاد الاسرائيلي والعلاقات الاقتصادية الاميركية - الاسرائيلية. أما شركة Noble Energy فهي ملتزمة حتى الآن بالحدود اللبنانية وتقوم بأعمال التنقيب على بعد 38 كيلومترا من هذه الحدود، وهي أوصلت رسائل الى الحكومة اللبنانية بأنها لن تتجاوز هذه الحدود وانها حتى مهتمة بالاستثمار والتعاون والتنقيب في المياه اللبنانية.
الادارة الاميركية، عبر المسؤولين في واشنطن أو في السفارة، تواصلت مع وزارة الطاقة حول هذا الملف. وهناك اهتمام بالاستثمار في التنقيب من قبل أكبر أربع شركات أميركية معنية بالطاقة والتي اشترت المعلومات المتعلقة بالمسح وحتى البعض منها التقى بوزير الطاقة اللبناني، والاعلان عن المناقصة سيكون بعد تشكيل هيئة إدارة هذا القطاع وإصدار المراسيم المرتبطة فيها. باسيل يقول لـ"السفير" ان رسالته الى الشركات الاميركية هي "الابواب مفتوحة لكم كما لغيركم، هذه مصلحة لبنان الاقتصادية والسياسية بفتح باب النفط لكل العالم".
في البعد اللبناني لهذه المسألة قد تكون هذه فرصة لحدوث تحول في تركيبة الاقتصاد. بحسب "المسح الجيولوجي الاميركي"، لبنان استورد عام 2005 حوالى 2.1 مليار من موارد الطاقة أي ما يقارب 22 بالمئة من مجمل وارداته في ذلك العام، ومن بينها 550 مليون متر مكعب من الغاز لتصل بعدها سنويا الى 1,1 مليار متر مكعب. واردات لبنان النفطية بلغت عام 1997 حوالى 700 مليون دولار وحوالى 1.14 مليار دولار عام 2000 في ظل تراكم دين عام تجاوز 50 مليار دولار. هيغبرغ يقول ان نجاح التنقيب يعني ان لبنان سيكون "أكثر أمنا في موضوع الطاقة، ليس عليه الاعتماد على الترانزيت من مكان آخر أو على قرارات حكومة أخرى حول اذا ما كانت ستمده بالطاقة ام لا". واعتبر هيغبرغ انه في حالة لبنان "هذه ليست قضية كبيرة، قد تكون كذلك داخل الحكومة اللبنانية، لكن لبنان ليس مستهلكا رئيسيا للنفط".
كل تريليون قدم مكعب من الغاز قيمته حوالى 12 مليار دولار، أي ثروة لبنان قد تتجاوز 300 مليار دولار لفترة 50 الى 60 عاما، وسيعتمد المردود المالي على التقديرات النهائية لحصة لبنان من مجمل احتياط الغاز في "حوض المشرق". فهل ستكون هذه الثروة الطبيعية فرصة لنزاع حدودي جديد أم فرصة لتبذير المزيد من الموارد اللبنانية أم فرصة لبناء اقتصاد منتج يوفّر الخدمات ودولة تؤمن فرص العمل وغير محمّلة بالديون؟