لكنه حرص على رفع نبرة صوته في كل مرّة كان يأتي فيها على ذكر «حزب الله». أرادها «حرباً» مع نازعي لقب «دولته»، تحت عنوان «السلاح غير الشرعي». قرع طبول المواجهة ومشى... إلى الرياض.
سنة الانقلابات، دشنتها «بلاد النيل» بثورة ميدان قلبت كل المقاييس. لم يعد «الجار المشاغب» بمنأى عن نار الاحتجاجات المتسللة إلى قصور الرئاسات العربية. وصار للحليف اللبناني، «حامل السلاح» حسابات أخرى... قد تفضي إلى معادلة داخلية جديدة.
من هذه الزاوية بالذات، يعيد «تيار المستقبل» قراءته للوضع اللبناني. يغلق صفحة التوتر مع «خصمه اللدود»، ليفتح صفحة جديدة قائمة عل أساس الدعوة للحوار والانفتاح في ضيافة «الطائف».
ولهذه الأسباب، يعيش «التيار الأزرق» في هذه الأيام حالة «ترف فكري». يكتب، ويناقش، يُكثر من العناوين ويقلّص من الشروحات، يضيف فقرات ويزيل أخرى... أكثر من سبع مسودات وثائقية «مرّت من هناك»، قبل أن تبصر الصيغتان النهائيتان النور. أكثر من عشر شخصيات نيابية وحزبية وضعت عصارة أفكارها على تلك الأوراق، وإن غُرفت «خميرتها» من معجن رضوان السيّد الخبير الاستراتيجي بالأولويات الاقليمية وتحديدا السعودية.
منذ نحو شهرين، طلب سعد الحريري وضع خريطة طريق لفريقه السياسي في ضوء زلزال الربيع العربي، ومتغيراته الإقليمية المنجزة أو المرجوة، وانعكاساته الداخلية المرتقبة. أراد، ولو متأخرا، وثيقة للعلن تُتلى أمام الجميع، خصوماً قبل الرفاق، برسالة واضحة، قد تكون مفاجئة بالنسبة لكثيرين، لأنها ستكون أشبه بمد اليد لـ«الآخر»، «حزب الله» تحديداً، بعد أشهر من المناكفات والخصومة والمواجهات المنبرية... وأراد وثيقة ثانية للداخل «الأزرق» تعبّر عن رؤية القيادة للمرحلة المقبلة، وتقويمها لتجربة المعارضة وتوصياتها.
شارك في صياغة الوثيقة السياسية، إلى جانب رضوان السيّد، كل من فؤاد السنيورة، نهاد المشنوق، حسن منيمنة، محمد شطح، نادر الحريري ومحمد السماك. ويتصل مضمونها بالتحديات التي طرحها «الربيع العربي»، على الداخل اللبناني كما خارجه، «والتي لا يمكن القفز فوقها أو تجاهلها»، كما يرى واضعوها. هي تدعو إلى إقامة «دولة المواطنة» التي يتساوى الجميع تحت سقفها في الحقوق والواجبات. لا خائف فيها ولا مطمئِن. هو خيار سياسي يريد «تيار المستقبل» تكريسه، «كمجموعة سياسية قادرة على التأثير في مجتمعها. أما ما يحدث خلف الحدود، فإنه يبقى ملكاً لأهله وهم أدرى بشعابه».
وهنا يقول أحد المشاركين في الصياغة إنه «لا بدّ من إعطاء هؤلاء الإسلاميين الجدد الذين بلغوا رأس السلطة في بعض الدول العربية نتيجة الإرادة الشعبية، فرصة قبل الحكم عليهم، لا سيما أنهم يؤكدون أنهم يحملون أفكاراً جديدة. فالمتغيرات الشعبية التي أفرزت هذا الحراك في الشارع، تفرض على هذه التيارات دوزنة خطابها وفق ما يريده الناس، وإلا فهؤلا لن يتوانوا عن محاسبتهم».
تحاول الوثيقة طمأنة المسيحيين في العالم العربي، داعية الى تماهي الاقليات مع الثورات بوصفها أفضل منظومة للحماية بديلا للأنظمة الدكتاتورية. تقارب الوثيقة بنصها الفلسطيني أيضا الموقف من موضوع القضية المركزية، وذلك «وفق نص متقن ودقيق ونوعي» على حد تعبير أحد أعضاء لجنة الصياغة.
للثورة السورية بند صريح في متن الوثيقة، من خلال الدعوة لتغليب الحلّ السياسي على الحل الأمني، حتى على التدخل العسكري الخارجي. بنظر أحد المشاركين فإن إعلان المجلس الوطني السوري احترام سيادة لبنان، هو أكثر من ضمانة لكيفية تعامل هذه الهيئة في حال استلامها زمام الحكم مع «الجار اللبناني»، الذي يفترض به أن يستفيد من هذا التطور الاقليمي الكبير في خاصرتنا الشرقية.
بالنتيجة فإن هذه «الثورات العربية فرصة للبنانيين كي يتخلّصوا من كل أشكال التدخل الخارجي (على اعتبار أن التدخّل لا يأتي إلا من سوريا!)، وكي يمارسوا قناعاتهم باتجاه إرساء دولة القانون والمؤسسات، وإعادة انتظام الحياة السياسية ضمن الآليات الديموقراطية».
داخلياً، تتناول الوثيقة بند العلاقات الإسلامية - المسيحية من خلال الدعوة للبحث عن آلية جديّة تؤمن التطبيق الكامل للدستور، وتحديداً «وثيقة الوفاق الوطني» التي مضى على ولادتها أكثر من عشرين عاماً، ولا يزال تنفيذها مبتوراً. ويقول أحد النواب المخضرمين في المستقبل انه قبل أن نبحث عن عقد اجتماعي جديد أو طائف جديد علينا أن نطبق كل الرزمة الاصلاحية التي نص عليها اتفاق الطائف، بدءا بالقانون الانتخابي الذي نص على جعل المحافظة دائرة انتخابية بعد إعادة النظر بالتقسيمات الادارية بالاضافة الى إنشاء مجلس الشيوخ وإقرار مشروع اللامركزية الادارية وغير ذلك من البنود الاصلاحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لم تر النور حتى الآن.
كما للعلاقات الإسلامية - الإسلامية مساحتها في النقاش المطروح للعلن، وتحديداً للعلاقة بين السنة والشيعة في لبنان «وهي علاقة لم تعرف محطات نزاعية في تاريخها اللبناني، باستثناء حالة التشنج التي سادت مؤخراً بسبب المحكمة الدولية وقبلها أحداث السابع من أيار 2008»، كما يرى المشاركون. وتطرح الوثيقة ضرورة حفاظ كل فريق على خصوصياته من دون إلغاء علاقة المواطنة بالدولة التي يفترض أن تكون عاملاً مشتركاً بين كل اللبنانيين.
يمكن القول إنّ الوثيقة «فيها الكثير من الإيجابيات وتتضمن نفَسا انفتاحيا»، كما يصفها أهلها، تتوج بمبادرة حوارية تحت سقف اتفاق «الطائف»، من خلال دعوة لتغليب المنطق على لغة التهديد والوعيد، للدفع باتجاه مشروع قيام الدولة الحقيقية.
أما الوثيقة الداخلية، فيشارك في وضعها إلى جانب السيّد، أحمد فتفت، جان أوغاسبيان، حسن منيمنة، أحمد الحريري، صالح فروخ، نصير الأسعد، وهي تحاول وضع تصور مستقبلي لتيار «المستقبل»، سياسياً وتنظيمياً، ولن تخالف في جوهرها السياسي، زميلتها الأولى، لكنها ستخوض غمار علاقات القوى بعضها ببعض، لا سيما الحليفة منها، وتقويم تلك التجربة للخروج برزمة خلاصات من المفترض التقيّد بها.
يقرّ هذا الفريق بأن تحالف قوى الرابع عشر من آذار يعاني من الوهن. واقعه غير متماسك. من هنا الحاجة إلى تفعيل أطر التنسيق لنسج التوافقات حول القضايا المثارة. يقول أحدهم إن هذا الفريق بحاجة إلى رسم سياسات مشتركة كي يتمكن من تنفيذها بدقة. بحاجة إلى أن يحدد فعله، كي لا يقتصر أداؤه على ردة الفعل فقط، بمعنى أن يجذبه الخصوم إلى مربّعهم.
يعترفون بترهل البناء التنظيمي، الذي يشكل واحداً من أسباب التراجع، ويطالبون برفع منسوب التشاور بين الحلفاء من خلال تشكيل لجان مشتركة، نيابية، حزبية، أو من قطاعات معينة تكون متخصصة بالقضايا المطروحة، بغية تأمين الحد الأدنى من التوافق، والموقف من قانون الانتخابات هو أول التحديات.
وفي انتظار إقرار الوثيقة الداخلية للتيار الأزرق، باعتبارها ما زالت قيد النقاش، فإن الوثيقة السياسية التي يفترض أن تذاع بين الرابع عشر من شباط، والرابع عشر من آذار، محور مناقشات باقي مكونات المعارضة، حيث يبدو أن السنيورة حمل عناوينها العريضة إلى أركان قوى الرابع عشر من آذار للتداول معهم في عمومياتها، والتي يُراد منها، بحسب تعبير أحد المشاركين في صناعتها، «الهبوط الآمن للبناني في ظل المتغيرات الكبرى التي تحصل في المنطقة».
من الواضح أن السنيورة نجح الى حد كبير في جعل منطقه يتفوق على منطق بعض الغلاة في التيار الأزرق، خاصة في الموقف من الشريك الشيعي. ليس معروفا بعد كيفية تعامل الوثيقة مع نجيب ميقاتي، خاصة أن زيارة جيفري فيلتمان الأخيرة، حملت معها منسوباً مضاعفاً من الإعجاب الأميركي بأداء رئيس الحكومة، وهو الأمر الذي فاجأ فريق سعد الحريري تحديدا.
بين الإعجاب الأميركي المضاعف بنجيب ميقاتي وتراجع صورة سعد الحريري وتياره في الخارج قبل الداخل، بين تقدم حضور فؤاد السنيورة داخل تيار المستقبل، وصورة الإسلاميين السلفيين الذين يأكلون من الصحن الشعبي نفسه للتيار الأزرق، بين هذه الأشياء والكثير الكثير غيرها، ثمة شيء يستدعي وقفة نقدية من جانب تيار المستقبل ومن ثم باقي حلفائه. لنستمع الى ما سيقوله سعد الحريري عبر شاشة «المستقبل» يوم الاثنين المقبل.. ولو أن محاوريه سيكون لسان حالهم قبل المقابلة وتحت الهواء وبعدها: هل سيدفع «الشيخ» رواتبنا أم لا؟