وقد عبرت المديرة الاقليمية للدول العربية في المنظمة ندى الناشف عن ذلك الواقع في كلمة ألقتها أمس في «الأونيسكو» لمناسبة إطلاق دراستين للمنظمة الأولى تناولت عمالة الأطفال في الشمال والبقاع، بعد دراسة سابقة لعمالة الأطفال في ضواحي بيروت الشمالية والجنوبية، والثانية، تناولت التشريعات الخاصة بمنع عمالة الأطفال. وقالت الناشف إن انتشار ظاهرة العمالة لا يعود إلى الفقر والأمية والبطالة فحسب، وإنما إلى هشاشة الأطر التنظيمية التي تتحمل مسؤولية رئيسية في مكافحة العمالة أيضاً. وأوضحت أن لبنان حقق في السنوات الأخيرة تقدماً على الصعيد القانوني في حماية حقوق الطفل، لكن فجوات كبرى لا تزال قائمة لا سيما في مجال تطبيق الضمانات القانونية الحالية. وتقوم المنظمة بمساعدة الحكومة اللبنانية على تطبيق اتفاقيتي منظمة العمل الدولية الخاصتين بتحديد الحد الأدنى لسن العمل، وأسوأ أشكال عمل الأطفال.
أجرى الدراسة الخاصة بعمالة الأطفال في الشمال والبقاع، قسم علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في جامعة القديس يوسف العام الماضي، بإشراف الدكتورة رولا ابي حبيب خوري، وشملت 1007 أطفال، تراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والسابعة عشرة، إضافة إلى زيارة 174 أسرة في منازلها، وإجراء 38 مقابلة معمّقة مع أصحاب عمل في كل من مناطق طرابلس، والميناء، والبداوي، وعكار في الشمال، وبعلبك والمنطقة الصناعية في زحلة وبر الياس والدلهمية في البقاع. أما أماكن العمل فهي المتاجر الصغيرة ومحال معالجة اللحوم والمطاعم وأكشاك الطعام والزراعة والبناء وجمع النفايات وصناعة الأعمال اليدوية مثل النجارة والطلاء والحدادة، وورش تصليح السيارات، وحمل الأغراض (الحمالون) وتصليح الأحذية وتلميعها (الإسكافيون) والتسول.
وتبين من خلال 823 استمارة في الشمال أن نحو تسعة وعشرين في المئة من الأطفال العاملين هم دون الثالثة عشرة من العمر، بينهم نسبة سبعة وتسعين في المئة من الفتيان والباقي فتيات، وبينهم سبعمئة وطفلان لبنانيون. أما في البقاع فقد أجريت مقابلات مع 192 طفلا، غالبيتهم من السوريين، 140 طفلا، يعملون في الزراعة، و54 يعملون في قطاعات مختلفة في المنطقة الصناعية في زحلة وبر الياس وتخوم الدلهمية وبعلبك. بينهم ما يقارب ستة وثلاثين في المئة دون الثالثة عشرة من العمر.
جميع هؤلاء الأطفال إما لم يدخلوا المدارس، وإما تسربوا منها بعد سنوات دراسة قليلة. وقد تبين أن نحو ثلاثة وثلاثين في المئة من الأطفال المشمولين بالمقابلات في الشمال يعجزون عن القراءة والكتابة، يرتاد ستة في المئة منهم تقريباً المدارس حالياً، بينما قال تسعة وثمانون في المئة إنهم ارتادوا المدارس لمدة تتعدى الثلاث سنوات. ويبدو أن غالبية الأطفال الذين يتسربون من المدرسة يتخلون عن الدراسة بين العاشرة والسادسة عشرة، مع تسجيل نسبة التسرب الأعلى في سن الثالثة عشرة.
وفي البقاع يعجز نحو ستة وثلاثين في المئة من الأطفال عن القراءة والكتابة، ويقول خمسة وسبعون في المئة من الأطفال الأميين إنهم ارتادوا المدارس سابقا لمدة سنتين على الأقل، بينما يرتاد المدارس حاليا ما يقارب ثلاثة وعشرين في المئة. وأسوة بأطفال الشمال، يتخلى غالبية الذين تسربوا من مدارس البقاع عن دراستهم بعد مرحلة التعليم الابتدائي.
وتعاني المنازل المئة وأربعة وسبعون التي تمت زيارتها في الشمال والبقاع أساسا من نقص المساحة الضرورية للعيش، وتردي الظروف الصحية. وبالرغم من وجود ما يزيد قليلا عن خمسة أطفال لدى كل أسرة، فإنها تعيش محشورة في منازل مكونة من غرفتين حداً أقصى، من ضمنها المطبخ والحمام.
وفي التشريعات الخاصة بمكافحة عمل الأطفال، جاء في الدراسة التي أعدتها الباحثة حياة عسيران أن مكافحة عمل الأطفال بدأت فعليا في العام 2000 عندما وقعت الحكومة اللبنانية ممثلة بوزارة العمل على مذكرة تفاهم مع البرنامج الدولي للقضاء على عمل الأطفال. وقد شكلت تلك الخطوة بداية سلسلة، تضم ثلاثة مشاريع تعاون من الجهات الوطنية المعنية، وهدفت أساسا إلى تنفيذ السياسات والأنشطة الرامية إلى مكافحة عمل الأطفال، مع التركيز خصوصاً على أسوأ أشكاله، وإجراء تقويم ميداني في شأن عمل الأطفال، كما حصل في دراسة الشمال والبقاع.
أضافت عسيران أن تلك المشاريع أثبتت فاعليتها في تصميم واختبار المشاريع النموذجية الناجحة التي تعالج قضايا عمل الأطفال، من بينها رفع الوعي في صفوف الأطفال العاملين وأسرهم ولدى صناع السياسات، وتوفير دعم اجتماعي وتعليمي واقتصادي مباشر للأطفال العاملين والمعرضين للخطر وأسرهم، وإتاحة الوصول إلى التدريب المهني وبأسعار مقبولة للفتيان الذين تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة، وإنشاء وإدارة أنظمة رصد عمل الأطفال، وأنظمة الإحالة على مستوى البلدية والمحافظة.
وأكدت أن منظمة العمل سلطت الضوء على أهمية الارتقاء بالجهود لكي تبلغ المستوى الحكومي الوطني مع التركيز على التشريعات والسياسات الوطنية، مشيرة إلى أن الدراسة التي أعدتها تعتبر وثيقة مساهمة في تلك الجهود، وتهدف إلى تحليل الوضع العام وفهم المحددات الأبرز لعمل الأطفال، ووضع خريطة بالسياسات والتشريعات القائمة ذات الصلة، والتوصية بالتدابير الواجب اتخاذها حيث تدعو الحاجة على المستويين السياسي والتشريعي ودعم تنفيذها بفاعلية.
وذكرت بالأسباب التي أدت لعمل الأطفال وهي: تفاقم الفقر وتدهور الظروف الاجتماعية الاقتصادية منذ الحرب الأهلية وما تلاها من تبعات، والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على لبنان وصولا إلى عدوان تموز العام 2006 ، واشتباكات مخيم نهر البارد، وتفشي البطالة في صفوف الرجال والنساء. وتفاوت مستويات النمو الاجتماعي والاقتصادي بين المناطق، وتفاوت نوعية التعليم المتاح بين المدارس العامة والخاصة حيث يتركز العدد الأكبر من الأطفال الذين ينتمون إلى أفقر الفئات الاجتماعية في مدارس التعليم العام. يضاف إلى ذلك عدم الاستقرار الأمني الذي تشهده مختلف المناطق، وما يرافقه من أثر سلبي في المجموعات المستضعفة.
ولفتت عسيران إلى أن الحكومة اللبنانية وضعت خطة إصلاح وطني، أحالتها إلى مؤتمر باريس ثلاثة، وجاء فيها تعريف واضح لعمل الأطفال كمكوّن جدير بالانتباه والاصلاح. ووضعت في الخطة مجالات محددة للتحرك، تماشيا مع تمت الإضاءة عليه في منظمة العمل الدولية، وحثت فيه الحكومة على اعتماد مسودة التعديلات الخاصة بقانون العمل الموجهة للأطفال، وفيها حظر بيع واتجار جميع الأشخاص ما دون الثامنة عشرة من العمر، وحظر استخدام أو تأمين أو عرض أشخاص دون الثامنة عشرة للإنتاج الإباحي أو لأداء أدوار إباحية، وحظر استخدام أو تأمين أو عرض أشخاص دون الثامنة عشرة من العمر للمشاركة في أنشطة غير مشروعة. بالإضافة إلى تدابير ضرورية منها اعتماد الحكومة قائمة بالمهن الخطرة المفترض تحديدها، مع قائمة بالمهن التي تعتبر أعمالا خفيفة ويسمح للأطفال بين الثالثة عشرة والخامسة عشرة بالعمل فيها.
وقد أوضحت عسيران في حوار معها أن لجنة منظمة العمل الدولية لتطبيق الاتفاقيات في جنيف، درست التعديلات الخاصة بالأطفال في قانون العمل اللبناني، وتبين أنها تعاني نقصاً أيضا لأنها لا تغطي قطاعي الزراعة والعمل في المنازل، وهناك مهن وأعمال غير مسجلة في لبنان مثل محال تصليح السيارات ومعامل خياطة مخفية تحت الأرض، ومعامل صناعة الأحذية، وقد رُصدت في المناطق التي شملتها دراسات منظمة العمل، وعندما يكون المحل أو المعمل غير مسجل لا يدخل إليه مفتش وزارة العمل تحت عنوان أن تفتيشه يعني جعله شرعيا. وقالت إن هناك طرقا عدة للاطلاع على أوضاع تلك المعامل، من بينها الاستعانة بجمعية الصناعيين لأن الصناعات يفترض أن تكون تحت رقابتها، ورقابة المحافظين لأن المحافظ يملك صلاحية إعطاء موافقة مؤقتة للمعامل تتجدد سنويا، ريثما يجد أصحابها منطقة صناعية، (في لبنان تصبح الموافقة المؤقتة دائمة)، وكذلك البلديات التي تملك سلطة الرقابة على المعامل.
وأكدت عسيران أن توقيع لبنان على الاتفاقات الخاصة بمكافحة عمالة الأطفال يرتب عليه مواءمة التشريعات مع تلك الاتفاقيات، بينما يلزم لتطبيق التشريعات إرادة سياسية، لأنه بعد منع الأطفال عن العمل يجب إيجاد البديل لإعالة أسرهم، وذلك ما تقوم به حتى الآن بعض الجمعيات الأهلية التي تساعد في إيجاد عمل للمرأة إذا كانت هي المعيل للأسرة، لكن الحل هو عبر اعتماد سياسات وطنية للحد من الفقر وتشجيع التعليم.