أخبار ممارسات التعذيب والانتهاكات بحق أنصار النظام السابق كانت قد وصلت إلى مسامع العديد من الجمعيات الحقوقية، ورفض الميليشيات تسليم سلاحها وانخراطها في معارك مستمرة ضدّ بعضها البعض ترك البلاد على شفا الانزلاق في حرب أهلية قبليّة، إضافة إلى إرث ثقيل حملته ليبيا من ديكتاتورية النظام السابق... كل ذلك في ظلّ انقسام المجلس حول إيديولوجيات سياسية مختلفة تنشد استغلال موقعها لتحقيق مصالح انتخابية، وسط تساؤلات مقلقة حول قدرة السلطة الانتقالية وأهليتها على إدارة المرحلة المقبلة.. بما تحمله هذه المرحلة من تحديات أمنية وسياسية واقتصادية تحول دون بناء الدولة الليبية الحديثة.
عن تحديات ليبيا الأمنية والسياسية المقبلة، أسباب استقالته وخلفياتها والتحضيرات الجارية للانتخابات البرلمانية المقبلة وما سيسبقها من «مصالحة وطنية» بين مختلف مكونات المجتمع، وعن «نصف الكأس الممتلئ الذي يدفعنا للعمل إيماناً بأن ليبيا تسلك الطريق الصحيح مهما يكن»... كان لـ«السفير» هذا اللقاء الخاص مع عبد الحفيظ غوقة، نجل السياسي والدبلوماسي عبد القادر غوقة الذي يتولى رئاسة المؤتمر القومي العربي، وذلك في أول حديث رسمي له بعد الاستقالة.
{ ما كانت الدوافع الفعليّة لاستقالتك من المجلس؟ ألا يمكن أن تُفسَّر خطوتك هذه استسلاماً أمام أول تحدٍّ واجهته السلطة الانتقالية؟
^ بالعكس، إن وجودي خارج المجلس سيجعلني أؤدي واجباتي الوطنيّة أفضل مما لو كنت في الداخل. فاستقالتي أتت، بعد سلسلة من الاحتجاجات ضد الحكومة الجديدة، كمحاولة مني للحدّ من الأضرار التي قد تلحق بالمجلس، وأيضا من أجل المصلحة الوطنية التي تقتضيها المرحلة.
في بيان الاستقالة، الذي قدمته للمسؤولين قلت إن المرحلة لا تقل خطورة وأهمية عن مرحلة الحرب والتحرير، ولم يستمر للأسف الشديد التوافق الشعبي نفسه للحفاظ على المصلحة الوطنية العليا، بل سادت الأجواء مظاهر التحريم والكراهية.
في بدايات الثورة كانت هناك روح من التعاون والتوافق الوطني بين مختلف مكونات المجلس، ولكن هذه الروح تبدلت بعد التحرير وأصبح هناك سعي لتحقيق أجندات خاصة محكومة بأيديولوجيات محددة طغت عليها روح من العداء والكراهية بين الأطراف.
أود هنا الإشارة إلى أن سلطة المجلس الانتقالي لا تخوّله إصدار قانون لتنظيم الحياة السياسية إنما هذه وظيفة المؤتمر الوطني، لكن البعض أراد استغلال منصبه لتحقيق أغراض انتخابية.
{ ما نعرفه أن المجلس هو نفسه من يحضّر للمؤتمر الوطني، فما الذي يجعلنا نعوّل على نجاح الأخير وسط صراع الأجندات السياسية الذي تتحدث عنه؟
^ لنوضح بداية أن المجلس لديه شرعية ثورية وليست دستورية لذلك فإن سلطته انتقالية فقط، وبهذا المعنى فهو موكل صياغة قانون انتخاب المؤتمر الوطني وقانون المفوضية العليا للانتخابات وتسمية أعضاء المفوضية فقط، أما من يحدّد آلية التعاطي في الشأن السياسي وتشكيل الأحزاب فهو القانون الذي سيصدره المؤتمر الوطني.
بدوره المؤتمر بعد انتخابه، سيدير المرحلة الانتقالية التي ستستمر لمدة سنة، يتم خلالها تكوين الجمعية التأسيسية التي تضع الدستور ليُصار لاحقاً إلى طرحه للاستفتاء من قبل الشعب الليبي.
الجدير ذكره في هذا الصدد أن قانون انتخاب المؤتمر الوطني حدّد الشروط الواجب توفرها لدى المشاركين فيه، وتضمن القانون تقسيم الدوائر الانتخابية التي حرصت على عدم إقصاء أحد إلا من كان من الرموز البارزة في النظام السابق ممن لا تنطبق عليه معايير النزاهة الوطنية الـ18 التي تضمنها القانون. علماً أن مسودة القانون كانت وزعت على كافة المجالس المحلية ومؤسسات المجتمع المدني، ووردت أكثر من 14 ألف ملاحظة عليها أخذت بالاعتبار من قبل المجلس الوطني بالتعاون مع فريق الأمم المتحدة قبل إصدار القانون بنسخته النهائية.
{ ولكن كيف يمكن الدخول في العملية السياسية وضمان نجاحها في ظلّ الوضع الأمني المتدهور على الساحة ورفض الميليشيات تسليم سلاحها؟
^ في الواقع، إن وجود الكتائب المسلحة يبقى التحدي الأكبر. قبل الخوض في الانتخابات يجب أن يكون السلاح قد دخل تحت المظلة الرسمية للدولة. وإذا لم تتمكن الحكومة خلال الأشهر الثلاثة المقبلة من تحقيق النجاح في هذه المهمة سيكون معنى ذلك تأخير بدء العملية السياسية.
أعتقد أن عملية بناء الجيش الوطني قد بدأت، إذ تمت تسمية رئيس لأركان الجيش وانطلقت آلية ضم المسلحين إلى صفوف القوات الأمنية، كما شرعت وزارة الداخلية بخطة لاستيعاب عدد كبير من المسلحين بعد أن وزعت استبيانات لإعادة دمجهم وتقديم ما يلزم من خدمات لمن يريد الانضمام للجيش أو إعادة استكمال الدراسة.
صحيح أن هذه المسائل تستغرق وقتاً، لكننا نأمل أن نلتزم بتطبيقها قبل 23 حزيران المقبل، الموعد المحدّد لانتخاب المؤتمر الوطني.
من جهة ثانية، أود القول إن القبيلة في ليبيا هي عامل استقرار وليس زعزعة، والسلاح أصبح بيد الشباب في بنغازي وطرابلس مثلاً بمثابة صمام أمان، علماً أن 90 في المئة منهم لا يمانعون تسليم السلاح عندما يرون أن أهداف ثورتهم قد تحققت.
{ وماذا عما كشفته منظمات حقوقية كمنظمة العفو الدولية و«هيومن رايتس ووتش» عن عمليات التعذيب «الوحشية» بحق أعضاء النظام السابق والتي اتهم المجلس بالضلوع فيها؟
^ للأسف، ما نسمعه عن عمليات التعذيب صحيح، ولكن المجلس ليس المسؤول عنها بشكل مباشر، وإن كان يظل في الواجهة. أكرر: إن المجلس الوطني لا يقبض على السلطة منفرداً وهو يتنازعها مع المسلحين والميليشيات. هناك تجاوزات على حقوق الانسان واعتقالات وعمليات تعذيب، لكن المجلس الوطني أصدر بيانات تؤكد أن دولة القانون عندما تقوم ستحاسب المسؤولين، ودعونا لا ننغمس في ردود الفعل الثأرية من أجل الحفاظ على الوحدة الوطنية ومكتسبات الثورة.
كما يعمل المجلس جاهداً للحدّ من التجاوزات، حيث أنشأ مجلس الحريات العامة وحقوق الإنسان لرصد هذه الحالات، كما تمّ تعيين رئيس للمحكمة العليا وحققنا استقلالية القضاء عن السلطة التنفيذية (كان وزير العدل يتولى رئاسة المحكمة العليا)، علماً أنه لدينا أكثر من 7000 معتقل ما بين سياسي وامني واقتصادي.. أعتقد أن المحاكمات ستحل المشكلة، وستضع حداً للتجاوزات التي تقع في ظلّ غياب السلطة القضائية.
{ وما مصير سيف الإسلام؟
^ سيقدم للمحاكمة شأنه شأن الآخرين وهو تحت سلطة المجلس الوطني ويوفرّ له ضمانات الدفاع والحقوق التي يكفلها القانون. مع العلم أن أي إنسان ملاحق وضع نفسه تحت تصرف المجلس تمّ توفير الحماية له.
{ ولكن ما الذي يضمن حماية نجل القذافي بعد ان قتل والده بطريقة بشعة تركت انطباعاً أن مستقبل الليبيين سيكون بيد من قد يستنسخ لاحقاً أساليب الديكتاتور ضدّ أعدائه؟
^ هذا الكلام فيه الكثير من المبالغة. ما حصل مع القذافي لم يحصل مع ابنه أو أي رموز من عهده الذين اعتقلوا في الفترة نفسها. كان من الصعب على الشباب الليبي، الذي كان في الصحراء لمدة أشهر يشاهد الدماء والأشلاء، أن يرى السبب في ذلك أمامه مباشرة ولا يصاب بالهستيريا. ما حصل كان نهاية طبيعية لطاغية كالقذافي، في حين أن الأمر اختلف مع ابنه أو القائد الميداني لقواته احمد إبراهيم الذي ما زال رهن الاعتقال. نحن ندعو إلى عدم إفلات أي مجرم من العقاب وهذا مبدأ إنساني. ولكن في ظروف الحرب لا يمكن أن يتصرف الإنسان بمنطق معيّن، لا سيما وان القذافي انتهك الحرمات والأعراض ودمّر البلاد، ولو كنت مكان الثوار لربما كنت تصرفت على هذا النحو.
{ وما تقييمك لأداء الإسلاميين في ليبيا ودورهم في المرحلة المقبلة؟
^ يعدّ تعبير إسلاميين غريباً على ليبيا التي لا تعرف أي مذاهب أخرى. أما عن رموز الإسلام السياسي الموجودة في المجلس فهي تعبر عن وجهة نظرها فقط. وفي المرحلة المقبلة، من حق الجميع، سواء كانوا ليبراليين أو إسلاميين أو يساريين تشكيل أحزاب، والفيصل سيكون هو صندوق الاقتراع.
أما ما حصل من هدم لتماثيل عبد الناصر وغيرها فلم يكن بهدف المسّ بأصحاب التماثيل نفسها أو ضدّ العروبة والناصريّة إنما هو تطبيق لعقيدة إسلامية ترفض التماثيل لا أكثر. وبكل الأحوال أنا لا أبرّر هذه التصرفات لأنها غير مقبولة بتاتاً، ولكنني أؤكد أن الليبيين الذي بذلوا كل هذه التضحيات لن يسمحوا لأي إيديولوجية بحرف ثورتهم عن مسارها الصحيح.