أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

استقالة شربل نحاس: النظام يهزم «فرصة إصلاحية»

الأربعاء 22 شباط , 2012 03:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 6,981 زائر

استقالة شربل نحاس: النظام يهزم «فرصة إصلاحية»

فعلها نحاس، ثم أقفل خطه الهاتفي مفضلاً أن يغيب عن السمع والرؤية، تاركاً للتأويلات والاجتهادات أن تأخذ مداها في تفسير خطوته التي ستبقى مثار جدل لوقت طويل، علماً أن ردود الفعل الأولى أظهرت أن البعض ينظر إليه باعتباره «شهيداً» لحلم كبير بالتغيير لم يأت زمانه بعد، بينما وجد البعض الآخر في ما فعله انتحاراً عبثياً، كان يمكن تفاديه بقليل من الواقعية السياسية. 

وإذا كان اللبنانيون قد انقسموا حول تفسير أبعاد استقالة نحاس، إلا ان المفارقة تمثلت في ان القوى السياسية والاتجاهات الاقتصادية، بكل تناقضاتها، أجمعت تقريباً على وجوب التخلص منه، مع فارق في الدوافع والخلفيات. وبهذا المعنى، يمكن القول إن «مصيبة» نحاس جمعت الكل، ليحقق الرجل بذلك إجماعاً نادراً في زمن الانقسامات الحادة حول كل شيء. 

ولعل نحاس اكتشف الآن انه بالغ في توقعاته المسبقة، وأن الرهان على إحداث التغيير من الداخل كان متسرعاً بعض الشيء، فهو لم يكن عضواً في تكتل الحزب الشيوعي الصيني، ولا وزيراً في حكومة الـ«بروليتاريا»، بل هبط فجأة فوق منظومة من المصالح المعقدة التي لا تطيق عادة ضيوفاً من طينته. 

ولئن كان تمرد نحاس على قرار عون بتوقيع مرسوم النقل قد أحرج الجنرال ودفعه الى اتخاذ القرار الصعب، إلا ان ذلك لا يحول دون القول إن استقالته هي خسارة بالدرجة الأولى لعون وتكتله اللذين فقدا «حكومة في وزير»، ذلك أن نحاس لم يختص فقط في شؤون حقيبته، سواء أيام وزارة الاتصالات أو خلال توليه وزارة العمل، وإنما كان شريكاً مشاكساً في أي نقاش يحصل داخل مجلس الوزراء، لا سيما حول المسائل المالية والاقتصادية التي كان يبرع في تفكيك ألغامها المضمرة وقنابلها الموقوتة. 

صحيح أن العديد من أعضاء تكتل التغيير والإصلاح سيتنفسون الصعداء منذ اليوم، بعدما تخلّصوا من عبء زميل مشاغب، ولكن الصحيح ايضاً أن الكثيرين في قاعدة التيار الوطني الحر سيفتقدون الى صولات وجولات نحاس، وسيشعرون بشيء من الإحباط نتيجة فشل التعايش بينه وبين التيار البرتقالي، برغم أن كليهما يرفع شعار التغيير والاصلاح! 

ويبقى السؤال.. هل كانت استقالة نحاس حتمية؟ 

بالنسبة الى المتحمسين له، فإن الرجل تحمل الكثير خلال مغامرته الوزارية، وهو لم يتخذ قرار الابتعاد إلا بعدما أيقن ان بقاءه في الحكومة وبالتالي في تكتل التغيير والاصلاح لم يعد ذا جدوى، مع شعوره بأن هناك رغبة في تكبيله وسط حصار غير مسبوق ضُرب عليه وشارك فيه الحلفاء والخصوم، بدءاً من رئيس الحكومة المصاب بداء «الحساسية « حياله، وصولاً الى تكتل التغيير والإصلاح الذي كان بعض أعضائه لا يجدون حرجاً في التصويت ضده في مجلس الوزراء، ناهيك عن قضم الصلاحيات ومد اليد الى مشاريع تقع في خانة اختصاص وزارته. 

من هنا، يرى مؤيدو نحاس أن الموضوع لا يتعلق بمجرد توقيع يضعه أو لا يضعه على قصاصة ورق، بل بات يرتبط بموقف مبدئي يختزن كل قناعات الرجل، حيث لا حل وسطاً بين احترام القانون ومخالفته، لمن كانت سيرته الشخصية مبنية أصلاً على هذا الخيار. 

وفي المقابل، يعتقد أصحاب الواقعية السياسية أنه لم تكن هناك ضرورة لمثل هذه البطولات الوهمية، آخذين على نحاس أنه ذهب بعيداً في رومانسيته، في حين كان بمقدوره أن ينسب لنفسه ولتكتله انتصاراً مهماً تمثل في النجاح بالدفع نحو قوننة بدل النقل من خلال صدور قانون بهذا الشأن عن مجلس النواب ينهي سنوات من المخالفات المزمنة، على أن يبدي الرجل في موازاة ذلك شيئاً من المرونة التكتيكية بالتوقيع على مرسوم بدل النقل، خصوصاً أنه قُدم له المخرج الذي يحفظ ماء وجهه عبر دعوته إلى أن يرفق التوقيع بمذكرة اعتراضية مفصلة ومنفصلة عن المرسوم، تحال إلى مجلس شورى الدولة.. ولكنه رفض. 

وبانتظار ما ستؤول إليه جلسة مجلس النواب اليوم، يبدو واضحاً أن عون قرر أن يحتفظ بكتاب الاستقالة ويبقيه معلقاً الى حين تبيان مسار الجلسة ويتأكد من أن اقتراح القانون المقدّم من النائب إبراهيم كنعان سيمرّ، وعندها يتصرف. 

الرواية الكاملة 

ولكن، كيف وصلت الأمور الى هنا؟ 

عندما كان شربل نحاس يُسأل عن سر توزيره، كان يقول إنه ليس ابن عائلة سياسية يطمح الى الحفاظ على نسلها ولا هو صاحب ثروة مالية يريد أن يزيدها او يحميها، وما من طموح نيابي أو وزاري لديه يمكن أن يجمعه مع ميشال عون.. «لقد تعرفت الى عون عند عودته الى لبنان عام 2005، وقبل ذلك الحين لم أكن أعرفه وربما لم يكن يسمع بي». 

وبعد التعارف تعدّدت لقاءات الرجلين اللذين سرعان ما اكتشفا ان هناك توارد افكار بينهما وأن حلم التغيير والإصلاح يجمعهما. هكذا، اقتنع عون أن بمقدور 

 

نحاس ان يشكل قيمة مضافة لمشروع التغيير والإصلاح، وعلى هذا الأساس اتخذ قراره بتوزير نحاس الذي لم يتردد في قبول المهمة بعدما شعر بأن المساحة المشتركة مع الجنرال واسعة. 

ولكن الطريق نحو الأهداف المرسومة لم تكن مفروشة بالورود، وكثيراً ما واجه نحاس اختبارات دقيقة، لعل أصعبها ما صادفه داخل الفريق الواحد، كما حصل في إحدى الجلسات الشهيرة لمجلس الوزراء، حين فوجئ وزير العمل بأن وزراء تكتل التغيير والإصلاح بمن فيهم المنتمون الى التيار الوطني الحر قد صوّتوا ضد مشروعه لتصحيح الأجور لمصلحة الاتفاق الرضائي الشهير، الى جانب إقرار مرسوم بدل النقل بأكثرية الأصوات. يومها جلس نحاس في منزله يفكر ملياً بالاستقالة، ولكنه أرجأ حسم قراره الى ما بعد لقاء عون. وبالفعل، اتصل نحاس بالرابية طالباً لقاء الجنرال الذي حدد له موعداً سريعاً. بعد نقاش مستفيض، خرج نحاس من الاجتماع وقد صرف النظر عن خيار الاستقالة، بل لم يتردد في القول لبعض المقريين منه: لقد كنتم مخطئين في قراءة موقف عون.. الجنرال ما في مثله. 

في تلك الجلسة الصريحة بين عون ونحاس، روى وزير العمل ما جرى في جلسة مجلس الوزراء، شاكياً التخلي عنه من الأقربين، وأكد انه لا يستطيع ان يوقع مرسوم بدل النقل لأنه مخالف للقانون، سائلاً عن مصير شعار الإصلاح والتغيير، ومبدياً استعداده في الوقت ذاته للاستقالة من أجل تسهيل أي تسوية مفترضة. حينها قال عون لنحاس: انت تؤكد انك لا تستطيع ان توقع مرسوماً مخالفاً للقانون، وأنا أضيف انه لا يحق لك أصلاً التوقيع عليه. ترك نحاس الرابية مطمئناً الى ان المعركة لم تنته بعد، ومتيقناً من أن مظلة الجنرال ما زالت فوق رأسه. 

وعندما أكد عون في مقابلته التلفزيونية الأخيرة أن نحاس ليس مقطوعاً من شجرة وأن إقالته تعني تطيير الحكومة، ازداد اطمئنان وزير العمل الى صلابة «البيئة الحاضنة» التي تحميه وتغطيه، وهو الشعور ذاته الذي انتابه حين كان يسمع كلمة عون في عشاء مهندسي التيار الحر السبت الماضي. في تلك الليلة، اقترب نحاس من الجنرال وقبّله مهنئاً إياه بعيد ميلاده، فشكره عون ثم همس في إذنه: أريد منك أن توقع مرسوم النقل. 

حيّرت هذه العبارة نحاس، وظل يفكر بدلالاتها حتى اليوم التالي، حيث تأكد الشك باليقين مع تلقيه العديد من الرسائل التي تحثه، سواء عبر الاتصالات الهاتفية ام عبر موفدي الرابية، على توقيع المرسوم، لا سيما أن مطلب قوننة بدل النقل سيتحقق وفق ما ينادي به تكتل التغيير والإصلاح. انقطع نحاس عن العالم الخارجي، وبقي في منزله يُقلّب الاحتمالات والخيارات، باحثاً عن المخرج الذي يتيح له الجمع بين الوفاء لعون من خلال التوقيع، والانسجام مع قناعاته بوجوب عدم مخالفة القانون. 

ومرة أخرى، قرر نحاس أن يلتقي عون مباشرة، ليضع أمامه على الطاولة مرسوم بدل النقل مذيلاً بتوقيعه، ومرفقاً بكتاب استقالته. بمعنى آخر، كان وزير العمل يريد أن يبلغ الجنرال المعادلة الآتية: توقيعي يعبر عن وفائي، واستقالتي تعبر عن كرامتي. 

حمل نحاس هاتفه، واتصل بالرابية لطلب لقاء عاجل مع عون. بعد قرابة 30 دقيقة، أجابه الشخص المعني بترتيب مواعيد الجنرال أن الأخير منشغل جداً ولا يستطيع مقابلته. كرر نحاس المحاولة من جديد، مقترحاً أن يحصل اللقاء في توقيت آخر، فجاءه الرد ذاته: الجنرال مشغول. 

وإزاء تعذر الاجتماع مع عون، اتصل نحاس ببعض المقربين من الجنرال مستفسراً عما يجري، فقيل له بوضوح إن المطلوب قبل كل شيء توقيع مرسوم بدل النقل، التزاماً بالقرار الصادر عن رئيس تكتل التغيير والاصلاح، وتقيداً بالتفاهم الذي تمّ بهذا الشأن. ومن باب تسهيل الأمر عليه، تبلغ نحاس اقتراحاً من الرابية بأن يوقع المرسوم ثم يطعن به أمام مجلس شورى الدولة. 

فهم نحاس الرسالة، وأدرك أن هامش الحركة أمامه أصبح ضيقاً. ومع ذلك، راح يسعى في ربع الساعة الأخير الى إيجاد كوة، على طريقته، في الجدار المسدود. ولعله ظن، بعد تفكير ومشاورات مع المقربين، انه توصل الى اختراق هذا الجدار عبر مبادرته الى توقيع المرسوم بعدما أدرج على الصفحة الأولى منه عبارة: «جانب مجلس شورى الدولة، الرجاء إبداء الرأي في نص المرسوم». كان نحاس يريد من هذه العبارة، كما يشرح المحيطون به، ان يحول دون ان تُنتزع منه براءة ذمة مجانية عن كل المخالفات القانونية المتراكمة على مدى السنوات الماضية، وأن يمنع الرئيس نجيب ميقاتي من استخدام توقيعه على المرسوم للتوظيف السياسي والقول بأن وزير العمل خضع في نهاية المطاف لما كان ينادي به رئيس الحكومة. لقد أراد بهذه الطريقة أن يصيب عصفورين بحجر واحد، الأول أن يستجيب لرغبة عون في التوقيع والثاني أن يحرم ميقاتي من فرصة أن يستخدم هذا التوقيع في السياسة، فكانت العبارة المشار إليها، والملتصقة بنص المرسوم، بمثابة الضمانة. 

لاحقا، ارسل نحاس هذه الصيغة الى النائب إبراهيم كنعان ليطلع عون عليها. لم يتأخر الجنرال في رفضها بعدما وجد فيها نوعاً من التشاطر غير المقبول على قراره بالتوقيع، إضافة الى انها تحرجه مع الرئس نبيه بري الذي وضع وإياه خريطة الطريق للحل، لا سيما ان الجنرال معروف بأنه لا يتراجع عن كلمته مهما كان الثمن. 

أوفد الجنرال النائب آلان عون الى نحاس طالباً منه ان يوقع مرسوم بدل النقل من دون أي زيادة او نقصان، على أن يضع إشعار الإحالة الى مجلس شورى الدولة في صفحة مستقلة. تجهّم نحاس وقال لزائره العوني: هل المطلوب مني أن أصبح مثل البعض في مجلس الوزراء.. أنظر إليّ، هل ترى فيّ هذا الشكل؟ وتابع: أريد منك أن توصل هذه الأمانة الى العماد عون. 

سأله عون: أي أمانة؟ 

أجاب نحاس: كتاب استقالتي. 

وبالفعل، خطّ نحاس على ورقة جملة مختصرة جاء فيها: أتقدم من جانب مقام مجلس الوزراء باستقالتي من عضوية مجلس الوزراء. 

وقبل ان يغادر آلان عون مكتب نحاس، خاطبه الأخير بالقول: أتمنى عليك ان توصل هذه الأمانة الى الجنرال وان تبلغه انني لا أستطيع للحظة أن أخونه وأخون قناعاتي التي كانت مشتركة بيني وبينه طيلة الوقت.. أتمنى عليكم أن تعفوني من تجرع الكأس المرّة.. أنا عرف متطلبات الواقعية السياسة، وانطلاقاً منها ومن شروط اللعبة الديموقراطية أنا أريد إعفائي من موقعي الوزاري لأنني لا أستطيع تحمل كلفة ما يطلب مني.


Script executed in 0.20759201049805