فصل نحاس نفسه من الحكومة وبالتالي من «تكتل التغيير»، بعدما اضطر العماد ميشال عون للمفاضلة بين التزامه بدعم قرار وزيره في عدم التوقيع على المرسوم المخالف للقانون، وبين التزامه السياسي الذي يفرض عليه للمرة الأولى اجراء مقايضات وتسويات حماية لما يمكن أن تؤمنه له الحكومة من الآن وحتى انتخابات العام 2013.
لاحظ نحاس أن رئيس تكتله أصبح محرجاً وغير قادر على إعطائه المزيد من الحصانة السياسية، فحرره من هذا الإحراج واضعاً استقالته بتصرفه. تلقفها عون كاسراً الجرة مع الوزير المشاكس الذي «لم تسمح له ظروفه بالتعاون معنا»... طبعا بعد أن قلده «الجنرال» أوسمة غير قابلة للصرف سياسيا!
بالنسبة لنحاس بدا واضحاً أن الاستقالة ما هي إلا تنفيذ متأخر لقرار اتخذ منذ ما يزيد على الشهر حين طُعن وزير العمل من قبل حلفائه وأعضاء تكتله الذين وافقوا على مشروع الاتفاق الرضائي الموقع بين العمال وأصحاب العمل وتغاضوا عن المشروع الذي تقدم به. عضّ نحاس على الجرح في حينها، بعد جرعة غير محدودة من الدعم في اجتماعه الشهير مع عون الذي أعلن حينها أنه لا يدعم نحاس فحسب بعدم التوقيع بل يؤكد أنه لا يحق له أن يوقع أصلا.ً
ظل عون على دعمه لنحاس، وعلى تكراره أن أي مس به «يعني تطيير الحكومة»، حتى نهار الجمعة الماضي. بعد لقائه رئيس مجلس النواب نبيه بري نضج اتفاق مختلف، استدعى تغيير قواعد اللعبة. تم الاتفاق على السير باقتراح قانون بدل النقل في جلسة مجلس النواب اليوم، إلا أن الاتفاق ظل معلقاً بانتظار انضمام الرئيس نجيب ميقاتي إليه. وبعدما أصر رئيس الحكومة على عدم السير بالقانون قبل توقيع المرسوم، صار الأمر بحاجة إلى مخرج ما.
خلال احتفال مهندسي «التيار الحر» يوم السبت الماضي، بعيد «الجنرال»، اجتمع نحاس مع جبران باسيل وابراهيم كنعان لتدارس الخيارات، مع التركيز من قبل الأخيرين على ضرورة إقفال الملف. وبعدما لاحظ نحاس أن طريقة تعاطي «التيار» مع الموضوع اختلفت، بما أوحى ان عون «صار جزءاً من التزام ما»، اقترح أن يصار إلى التوافق على إحالة المرسوم على مجلس شورى الدولة، بدلاً من رئاسة مجلس الوزراء.
وافق عون لاحقاً على الخطوة، التي رأى فيها حلاً مقبولاً، ثم سعى إلى تسويق الأمر مع الحلفاء. زار كنعان بري طارحاً عليه المخرج، فوافق رئيس المجلس على الاجراء الذي يتوافق مع المادة 57 من قانون تنظيم مجلس شورى الدولة.
ظل ميقاتي مصراً على توقيع المرسوم قبل أي بحث آخر، إلا أن بري استطاع إقناعه بأن السير بالخطوة لا يعد انتقاصاً من صلاحيات رئاسة الحكومة، ما دامت المرجعية تبقى القانون.
سريعاً أشيع أن نحاس سيوقع المرسوم ويحيله على مجلس الشورى. من أشاع هذه الأجواء كان يظن أن نحاس سيلتزم «على العمياني» بالقرارات «العليا»، وهذا ما لم يحصل.
لم يستطع نحاس أن يقتنع بتوقيع المرسوم الذي كان يرى فيه إضراراً بمصالح العمال، وفي الوقت نفسه لم يستطع إلا الانتصار لراديكاليته، غير مبال بالاتفاقات السياسية التي أجراها رئيس التكتل، والتي كان «همه الأول خلالها عدم كسر نحاس»، كما أكد نائب شارك في مفاوضات اليوم الأخير. دمج نحاس المرسوم والإحالة في ورقة واحدة ثم وقعها. أراد من هذه الخطوة أن يحتاط بألا يقوم رئيسا الجمهورية والحكومة بالتوقيع على المرسوم، ويتجاهلا رأي مجلس الشورى.
في هذه الخطوة كان نحاس واضحاً بأنه لا يثق بأن القانون سيمر فعلاً في مجلس النواب، كذلك فقد أعطاها غلافاً قانونياً عبر استشارة الخبير الدستوري المحامي سليم جريصاتي، الذي أكد قانونية الاحالة.
هذه المرة لم يحتج الأمر إلى استمزاج رأي أحد. رفض عون اقتراح نحاس مباشرة، مصراً على أن الحل الوحيد هو في فصل المرسوم عن الاحالة، كما درجت العادة في الكتب التي ترسل إلى مجلس الشورى. أما في ما يتعلق باحتمال عدم إقرار القانون في مجلس النواب، فقد أكد التكتل أن لذلك علاجا مختلفا وهو حكماً سيكون أكبر بكثير من أي خطوة منفردة يمكن أن يقوم بها وزير العمل، الذي «لا يجب أن يشخصن الأمور أو أن يتحمل منفرداً تبعات أي خيانة قد يتعرض لها التكتل في المجلس»، كما أشار مشارك في اجتماع أمس. الأولوية كانت حتى ذلك الحين هي السير بما اتفق عليه مع بري، والذي إن تحقق سيثبت القواعد الجديدة للعمل الحكومي التي اتفق عليها معه يوم الجمعة.
يرفض مصدر مقرب من نحاس ما قيل انه لم يتفهم ما أنجز من تفاهمات سياسية هدفها حماية الاستقرار عبر إعادة تزخيم العمل الحكومي. ويوضح أن الصيغة التي طرحها نحاس تجعل من الجميع رابحاً فيمكن لميقاتي أن يعلن أنه تم توقيع المرسوم، فيما كان يمكن لمن يشاء أن يقول ان التوقيع كان على الإحالة.
اتصل نحاس يوم الاثنين بالرابية طالباً موعداً من «الجنرال»، فقيل له ان لديه التزاما. طلب موعداً في اليوم التالي (أمس) فلم يحصل عليه أيضاً. فهم وزير العمل أن عون لا يريد مقابلته، ما لم يوقع المرسوم. يقول نائب في التكتل ان عون لم يشأ أن يتعاتب مع نحاس وجهاً لوجه.
نشطت الوساطات في الساعات الأخيرة، إلا أن نحاس ظل على مبدئيته، رافضاًَ التراجع. وما لم يستطع قوله مباشرة لعون، طلب من النائب ألان عون في زيارته الأخيرة له أن ينقله له. قال له إنه باستقالته من الحكومة يحرره من الاحراج الذي قد يسببه له موقفه المصر على عدم توقيع المرسوم. وفي الوقت نفسه، حملّه كتاب استقالته الرسمي، الموجه الى «مقام مجلس الوزراء» لوضعه بتصرف عون.
في اجتماع التكتل، بدا معظم أعضائه مصدومين. طلب البعض من عون عدم البت بالاستقالة، فيما طلب البعض الآخر أن يتم الاستماع إلى نحاس قبل القيام بأي خطوة تثبت استقالته. كانت الغلبة في النهاية للرأي الذي يؤكد ضرورة الالتزام بالسياسة العامة التي يقررها «التكتل»، وهو ما أعلنه عون بعد الاجتماع صراحة: لا يمكن لأحد «أن يقف ويُجَمّد قرارنا، مع اعترافنا بكفاءة الوزير نحاس وبأدائه السّليم». أضاف: «إذاً، لا أحد فوق الإرادة الّتي يمثّلها التّكتل مجتمعاً».
بدا واضحاً أمس أن عون يريد أن يستغل استقالة نحاس، كورقة ضغط في سبيل تمرير قانون بدل النقل اليوم في المجلس النيابي، لذلك فقد أعلن أنه لم يقرر بشأن الاستقالة بعد. وقال: «لم أقُل إذا قبلتُها أو لم أقبلها. لا يزال القرار بيدي. وعندما تُرفَع إلى مجلس الوزراء، يكون قد تمّ القبول بها».
وكان عون قد أشار بعد الاجتماع إلى ان «تفاهماً حصل بينه وبين الرّئيس نبيه برّي على الموضوع وعلى مشروع القانون الذي قدّمناه، ومن ثمّ شمل هذا التّفاهم رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وبحثنا طريقة تقديم القانون كما بحثنا بالمرسوم المقدّم وبطريقة توقيعه، واتفقنا على متابعة المسار القانوني في حال حصل أيّ طعن بالقانون. أطلعت الوزير شربل نحّاس على ما اتّفقنا عليه، وهنا أشكر نحّاس على خدمته معنا وعلى تعاونه وهو من الوزراء الذين يتمتّعون بكفاءةٍ عالية جدّاً، لكن ظروفه لم تسمح له بالتّعاون معنا الآن».
وأضاف: تقرر تقديم اعتراض لمجلس الشّورى على المرسوم، فطلبنا منه أن يحضّر المرسوم ويحضّر طعناً. فوضع رسالة التّحويل لمجلس الشّورى والمرسوم على صفحةٍ واحدة، وبهذا تحوّلت إلى رسالة لمجلس الشّورى ولم تعد طلب طعن، كما أن المرسوم لم يكن مرسلاً على ورقة منفردة كما يفترض، وصارت الورقة المقدّمة عبارة عن رسالة وبذلك لا يكون المرسوم صالحاً للاستغلال. كان يجب تقديم صفحتين، الصّفحة الأولى عبارة عن رسالة للإرسال لمجلس الشورى تحمل الأسباب الموجبة للطعن، والصّفحة الثّانية تكون للمرسوم كما هو. كان من المفترض أن يمرّ القانون غداً (اليوم) في مجلس النواب، فيصبح المرسوم، بعد غد (غداً)، غير صالح لأنّه سيكون قد صدر قانون يحدّد كيفية تنظيم بدل النّقل. نحاس لم يوقّع المرسوم كما يُفترض، أي على ورقة منفصلة عن ورقة الطعن، وتحوّل الخلاف معه إلى خلاف داخليّ، ولا علاقة له لا بالضّغط الحكومي ولا بالتّصاريح الهمايونية حول توقيعه أو عدم توقيعه وعن إقالته. فلو لم تكن ستتمّ قوننة مرسوم بدل النقل عبر قانون المجلس النيابي لما كنّا وافقنا على التوقيع، وكنّا اكتفينا فقط بالطّعن به وعندها تتحمّل الحكومة وحدها المسؤوليّة».
وتابع: إذاً المشكلة هي داخلية. لقد وصلَتني الاستقالة وموضوع معالجتها يكون طبعاً مع الوزارة وليس معي أنا، لأنّ الاستقالة ستُرسَل في نهاية المطاف إلى مجلس الوزراء. وقال: «عندما نأخذ قراراً في التّكتل، فإن كل التّكتل مُلزَم به. من جهة أخرى، نحن حافظنا على القانون وحافظنا على حقوق العمال وحافظنا على شرعية هذا القانون. إذاً لا يمكن لأحدهم أن يقف ويُجَمّد قرارنا، مع اعترافنا بكفاءة الوزير نحاس وبأدائه السّليم. إذاً، لا أحد فوق الإرادة الّتي يمثّلها التّكتل مجتمعاً».
وحول الجلسة التشريعية، أكد عون أن لا ضمانات بأن الاقتراح المقدم من النائب ابراهيم كنعان سيمر في المجلس، إلا أن الاتفاق يقضي بأن يسعى رئيس الحكومة ورئيس مجلس النّواب لتمرير القانون. لستُ أقول إنّه سيَمر، لكنّهم سيقومون بجهدهم كي يمر».