فهي عاصمة لبنان الثانية، بعد سقوط خيار العاصمة الأولى، على خلفية «سقوطها العسكري» في 7 أيار. وهي طرابلس الشام، الشام نفسها المتهمة يومها بالمساهمة في إسقاط الحريري الابن، وصاحبة الثأر الطرابلسي القديم، منذ قدم الثمانينيات، وفق الحسابات الحريرية على الأقل. وهي مدينة نجيب ميقاتي نفسه، البديل الآتي بواسطة «الغدر والكذب»، كما قال الحريري نفسه لاحقاً في 14 آذار 2011. وهي أخيراً «قلعة المسلمين»، كما تحولت ساحة عبد الحميد كرامي، فيما لم يجرؤ سياسي طرابلسي أو شمالي أو لبناني واحد، على المطالبة بإزالة تلك اللافتة المخالفة للميثاق، والمنتهكة لجوهر الفقرة «ط» من المقدمة الميثاقية للدستور اللبناني...
المهم أن الحريري قرر الهجوم يومها على ميقاتي، عبر معركة لا لبس فيها، ساحة وعنواناً: الساحة عقر الدار طرابلس، والعنوان حقوق «أهل السنّة والجماعة». حتى خرج في ذلك اليوم الشهير صوت من «مثقفي» الحريري «المستقبليين» لا يتحدث إلا عن أسماء من 14 قرناً مضت، وسط نارٍ كادت تحرق أكثر من الهواء المباشر...
سنة وشهر تقريباً، هو الزمن الذي مضى على تلك الواقعة. زمن كان كافياً لإعادة خلط كل شيء، من دون أي تغيير. كيف؟
يومها، كان الحريري متعباً بمسألة ما سُمي «الشهود الزور». حتى كادت تبتزه. فكتب في 6 أيلول اعتذاراً إلى دمشق الأسد، ثم حار ودار وساير وناور... ولم ينفعه كل ذلك، حتى أُسقط بتلك الذريعة تحديداً. بعد سنة وشهر، يبدو ميقاتي مرتاحاً إلى تلك القضية نفسها. لا وجود لها، لا ذكر ولا مطالبة. ولو كانت أكثريته الحكومية ممن ذُبحوا أربعة أعوام بخيط الشهود الزور أنفسهم، ولو كان وزير عدله مربطُ خيله الرابية، لا معراب كما في حكومة الحريري.
ويومها كان الحريري منهكاً في مسألة تمويل المحكمة الدولية، لا يجد لها مخرجاً من مأزق مُحكم حول عنقه وحكومته. استنجد بالتركي والقطري، ووصل إلى نيويورك وواشنطن استغاثة، من دون جدوى. حتى طلب من أهل المحكمة تأجيل الموضوع، عله يذلل ضمن صفقة الـ«س ـــ س»، كما تؤكد وثائق «ويكيليكس»... لكن مساعيه ظلت بلا نتيجة، حتى سقوطه.
بعد سنة وشهر، لا مشكلة لدى ميقاتي في هذا المجال. فهو قرر بشطحة قلم، أن يمول المحكمة، ومن أموال المودعين اللبنانيين في مصارفهم الخاصة بالذات، وخلافاً لأي قانون أو أصول أو أنظمة، وسكت الجميع وقبلوا. قبل أن يقبلوا أكثر فضيحة التجديد للمحكمة وبروتوكولها وقضاتها، بتنازل عن آخر فاصلة سيادية في الدستور كما في نظام المحكمة نفسها.
ويومها كان الحريري منكوباً في مسألة العلاقة مع سوريا، اضطر إلى مسح كل كلامه السابق إزاءها، وإلى زيارة دمشق أربع مرات، والمبيت في «بيت الأسد»، ليضمن حداً أدنى من استقراره في السرايا... بعد سنة ونيف يستقر ميقاتي هناك، من دون أي زيارة لدمشق، لا بل بنأي عنها، على قاعدة أن النأي في اللغة بُعدٌ...
ويومها كان الحريري مترنحاً في مسألة دولته الرديفة القائمة داخل الدولة، يحار سبلاً لرد هجومٍ على وسام الحسن أو غارة على سهيل بوجي أو مساءلة لأشرف ريفي أو مناكفات يومية لمحمد الحوت أو نبيل الجسر أو عبد المنعم يوسف أو آخرين ممن يسميهم خصوم الحريري «موظفي سادات تاور»... بعد سنة وشهر، يرتاح كل هؤلاء في مواقعهم، القانونيون منهم وغير القانونيين، ويرتاح ميقاتي لراحتهم... ولو تعب المتعَبون أو المتعِبون.
ويومها، أشار مرة شربل نحاس إلى حسابات إسرائيل في الداخل اللبناني، فانتفض الحريري، رفع إصبعه في وجه من لا ميليشيا خلفه ولا مليارات، ولا قبيلة من نوع الطائفة ولا عشيرة من نوع العائلة، وهدده بالمباشر. ومع ذلك، انتصر شربل نحاس على تهديد الحريري، صمد على طاولته سنة وثلاثة أشهر، قبل أن يسقط الحريري ويبقى نحاس... بعد سنة وشهر من انتصار فريق نحاس على من هدده، سقط المنتصر وشمت المنهزم وفرض ميقاتي كل شروطه...
باختصار، كل ما عجز الحريري عن تنفيذه، حققه ميقاتي مثل شربة ماء. وكل ما استنفر الحريري عصبية المذهب للمطالبة به وتذرع الدفاع عنه، انتزعه ميقاتي من دون حروب ولا معارك. ولو بلا جميل سُني، ولا حتى تقدير أو عرفان. حتى يبدو نجيب ميقاتي وكأنه القائد المكتوم للتيار الحريري، أو بطل الإنجازات السُّنية الحريرية بامتياز، فيما يتحمل من تلك البيئة السُّنية الحريرية تحديداً، أقصى اتهامات الغدر والكذب والانقلاب...
حقاً لا يُكرم «نبيٌّ في قومه»، ولو كان «نجيباً»... أما إذا كان شربل، فيُذبح.