ترقد في براد مشرحة «مستشفى بعبدا الحكومي الجامعي» سبع عشرة جثة، أو بقايا جثة، تعود في معظمها إلى رعايا أجانب، من أصول أفريقية وآسيوية، توفوا على الأراضي اللبنانية. آخر هذه الجثث وصلت منذ ثلاثة أشهر وأولها منذ نحو ثماني سنوات مضت.
الجثث المجهولة الأصحاب منسية في البراد من دون أن تتولى أي جهة رسمية لبنانية مسؤولية إحصائها ودفنها. وقد غُلِّفت بأكياس من النايلون بعدما حقنت بمادة «الفورمول» الحافظة. وتنقسم بمعدل ثلثين للإناث وثلث للذكور، وتعود في معظمها لضحايا حوادث سير، أو غيرها من الحوادث، التي لم تسفر تحقيقات الأجهزة الأمنية عن معرفة هويات أصحابها. وترسلها المخافر إلى المستشفى، بناء على إشارة من النيابة العامة، ولا يمكن للمستشفى التصرف بها إلا بعد مراجعة النيابة العامة.
يتألف براد مستشفى بعبدا المركزي من خمسة برادات مستقلة يضم كل منها ثلاثة جرارات. والجرار مخصص لميت واحد. لكن الموظف المسؤول يضطر إلى وضع الجثث «المجهولة» فوق بعضها بعضاً في أكثر من جرار، إفساحاً في المساحة أمام جثث أخرى.
الإبقاء على الجثث في البراد فترات طويلة لا يراه الطبيب الشرعي سامي القواس مهيناً للجثث فحسب «بل يتسبب برائحة كريهة جداً في المشرحة كلما فتح جرار، سببها التعفن البطيء للجثث، لاسيما أن قدرة البرادات غير مجهزة لاستيعابها لفترات طويلة»، مؤكداً على ضرورة «معالجة هذه المشكلة على الفور».
يعتبر «مستشفى بعبدا الحكومي» مؤسسة عامة تخضع لسلطة وصاية وزارة الصحة وتوجد مشرحتها «البدائية» في بناء غير مكتمل من طبقتين، يقع في مقابل مدخل المستشفى ويتبع لها. وتتألف المشرحة من البراد المركزي ومن عربة لنقل المرضى توضع عليها الجثة المخصصة للتشريح في محيط يكاد يشبه غرفة أشباح أكثر منه قسماً متخصصاً في صرح طبي. إذ إن المشرحة ومن ضمنها البراد، وعلى عكس ما تفرضه المعايير العلمية والفنية والطبية، يقعان في غرفة تفتقر إلى التهوئة الصحية والتدفئة والإضاءة والمعدات الطبية المناسبة من مغاسل وأفران ومقصات وغيرها.
يشرح القواس أنه يضطر وزملاؤه إلى إحضار أدواتهم الطبية الخاصة معهم عند تكليفهم تشريح إحدى الجثث في المستشفى المذكور، لافتاً إلى أن وضع المشرحة «معيب، لأنها يجب أن تكون مثل غرفة العمليات في المستشفى من حيث معداتها وإمكاناتها».
أكثر من ذلك، يعتبر «مستشفى بعبدا» «حلقة ضعيفة» في موضوع استقبال الجثث المجهولة. فإذا كانت المستشفيات الخاصة أو بعض الحكومية تملك «ترف» رفضها فإن الأمر لا يحصل في بعبدا. يروي أحد العاملين في المستشفى أنه في إحدى المرات كاد رجال الشرطة يوقفون الموظف المسؤول عن المشرحة لأنه رفض استقبال إحدى الجثث لأن «براد المستشفى كان وقتها محتشداً بالجثث عن آخره». وفي مرة أخرى قام عناصر الشرطة بترك إحدى الجثث على الأرض، من دون أدنى احترام لها، وغادروا المستشفى، بعد رفض الموظف المسؤول استقبالها للسبب نفسه. فعوقب رتيب، برتبة مؤهل أول، على «التصرف اللامسؤول» وتم تشكيله تأديبياً إلى قطعة عسكرية أخرى.
«كلمة السر»
طالبت إدارة «مستشفى بعبدا الحكومي» المعنيين مراراً بدفن الجثث المتروكة في البراد، إلا أن أحداً لم يستجب. مما دفع المسؤول عن المشرحة، قبل نحو عام ونصف، إلى ترتيب أوراق الجثث المجهولة (تودع في براد المستشفى بناء على إشارة النيابة العامة حتى البت بمصيرها)، وأرسل كتاباً إلى النيابة العامة عارضاً عليها المشكلة.
جاء جواب النائب العام الإستئنافي في جبل لبنان كلود كرم، رداً على كتاب المشرحة، طالباً من فصيلة بعبدا التنسيق مع المسؤول عن البراد لترقيمها، وأخذ عينات من البصمات الوراثية عند الإمكان، ومن ثم دفنها. أرسلت نسخة من الكتاب إلى المسؤول عن المشرحة ونسخة أخرى إلى فصيلة درك بعبدا. وعلى الرغم من قرار النائب العام إلا إن أي إجراء عملي لم يتخذ. إذ تكمن المعضلة الحقيقية، أو «كلمة السر»، في تحديد الجهة الرسمية التي تتولى مسؤولية الدفن وإيجاد مكانه وآلياته وإجراءاته. هل تكون وزارة الداخلية؟ أو وزارة الصحة؟ أو وزارة العدل؟ أو بلدية المنطقة حيث المستشفى؟ أو بلدية المنطقة التي وجدت فيها الجثة؟ أو المستشفى نفسه الذي لا يملك أقل الإمكانات وأولها المقبرة المخصصة لدفن تلك الجثث؟
في لبنان لا نص قانونياً يراعي هذا النوع من الحالات، وفق أحد المحامين العامين الإستئنافيين في محافظة جبل لبنان (أكبر محافظة لبنانية من حيث عدد السكان المقيمين)، والتي يتبع لها إدارياً قضاء بعبدا. وكل ما هو مرتبط بالأحوال الشخصية من حالات ولادة وزواج وطلاق ووفاة وإرث، يتم وفق أحكام الطوائف و«قوانينها».
وتنص المادة التاسعة من الدستور اللبناني على الآتي: «حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها على أن لا يكون في ذلك إخلال في النظام العام وهي تضمن أيضاً للأهلين على اخـــتلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية».
وبهذا يكون النظام الطائفي اللبناني قد قبض على مصير الذين يعيشون على أراضيه، منذ ولادتهم، إلى ما بعد موتهم. وأسر جثث مجهولة هي بمعظمها لأجانب جاؤوا للبحث عن لقمة عيش، بعيداً من أوطان وعائلات مازالت تنتظر عودتهم، وجعلها رهينة لبرادات الموت والإهمال بعد وفاتها، من دون أدنى احترام لحرمة الموت والكرامة الإنسانية وقيم الأخلاق.
يحدث هذا لأن النظام ببساطة لا يعرف طائفة كل منهم!