اختصر محبو نحاس الطريق، فعزوا أنفسهم باستنتاجهم أنه ليس صالحاً لهذا الزمان. استسلم الجميع لقدر ظن أنه محتوم، مفاده بصريح العبارة أن أوان التغيير لم يحن، وان نظام المصالح غير قابل للاختراق. من هذا المنطلق، صار من البديهي القول إن نحاس مخلوق فضائي أثبت أنه غير قادر على التعايش مع البشر. تلك العبارات شكلت إعلاناً رسمياً بهزيمة كل مؤمن بالتغيير، واستسلاماً لخيارات اجتماعية واقتصادية وسياسية فرضت عليه فرضاً، من دون أن يحاول حتى أن يعترض عليها أو أن يسعى إلى تعديلها.
ليس هذا فقط، بل إن من يفترض به أن يعمل لتحصيل حقوق العمال، اتخذ لنفسه موقعاً لم يسبقه اليه أحد، فوقف كمحارب أول لمصالح العمال، لا بل متفوقاً على أصحاب العمل أنفسهم في حماية مصالحهم وأعمالهم.
ليس شربل نحاس بطلاً دونكيشوتياً كما يحلو للبعض من أصدقائه تصويره. لم يحارب نحاس الوهم يوماً، بل ظل مصراً على رفض الواقع المرير الذي لا دور فيه إلا لمن يخدم مصالح الأغنياء ويمعن في إفقار الفقراء.
الوزارة بالنسبة له لم تكن إلا أداة حاول استعمالها لإحداث خرق في جدار النظام الذي ظنه مهترئاً وبات من الممكن ضعضعته من داخله، فإذ به يصطدم بواقع أصعب من أن يهتز.
رأى العماد ميشال عون في شربل نحاس شريكاً أكثر منه مجرد أداة للحرتقة على الخصوم وبرنامجهم الاقتصادي الاجتماعي. تطورت العلاقة بين الرجلين، حتى صار نحاس في الدائرة الضيقة لـ«الجنرال»، الذي سرعان ما أعجب بطريقة عمل الوزير اليساري ومبدئيته التي قيل إنه يتشارك فيها مع «الجنرال»، خاصة أن الأخير لطالما تباهى أنه خدم في كل مطارح لبنان وصار يعرف الناس وأوجاعهم إلى أي طائفة أو منطقة انتموا.
مبدئية نحاس لم تكن مبنية على احترام القوانين، كما يظن البعض. بالنسبة للوزير المستقيل كانت الأولوية دائماً هي لتأمين مصالح الناس، وإن ساعدت القوانين في تحقيق هذه المصالح رفع لواءها عالياً، وإن تبين أنها لا تفيد في تحقيق هذا الهدف، حاول الالتفاف عليها عبر البحث عن ثغراتها. القانون بالنسبة اليه، لا بد وأن يعبر عن مصالح الضعفاء بالمعنى الاجتماعي. ولأجل ذلك لم يمانع في جعل «النص» عجينة بين يديه يلوح بها غالباً نحو اليسار.
اليسار بالنسبة لنحاس ليس تهمة يحلو للبعض توجيهها له بل التزام بكسر احتكار الأغنياء للهواء الذي يتنفسه الفقراء.
لتحقيق أهدافه، نفض الغبار عن الكثير من القوانين التي كانت مدفونة في الأدراج. نقض أعرافاً مخالفة للقانون وفسر مواد على طريقته.
بهذه الطريقة فقط، استطاع أن يرفع الصوت عالياً لتغيير النهج المتبع في إعداد الموازنات منذ ما بعد الحرب، فارضاً شموليتها لكل ما ينفق وما يجبى، رافضاً في الوقت نفسه، حشوها بمواد لا هدف من ورائها إلا الهرب من الرقابة.
في موازنة 2010، توقف شربل نحاس عند بند ينص على تخفيض الضرائب على إعادة تخمين الموجودات. رفضه سريعاً بعدما اشتمّ من ورائه محاولة لإعفاء شركة «سوليدير»، التي تتجنب منذ زمن إعادة تخمين موجوداتها، مما يقارب 3 مليارات دولار.
كان نحاس يعرف أن أي محاولة منه لتطوير شبكة الخلوي عبر إدخال تقنيات الجيل الثالث وتطوير شبكة الانترنت عبر تمديد الألياف الضوئية، ستواجه من قبل أصحاب المصالح ومافيات الأعمال الممثلة في مجلس الوزراء. لعب نحاس بأوراق خصومه، فاعتمد على القانون الذي وضعه الرئيس رفيق الحريري عام 2002، وألغيت بموجبه عقود BOT، ليجعل الشركتين تستعملان بعض الأرصدة قبل أن تسحبها وزارة المالية، في سبيل التطوير.. وهكذا كان.
مشروع الألياف الضوئية سلك بدوره طريقاً ملتوية. عرض نحاس المشروع على مجلس الوزراء عبر طلب للحصول على «سلفة بقيمة 100 مليار ليرة لتمويل مشروع إنشاء شبكة الألياف الضوئية على كامل الأراضي اللبنانية». وبالفعل وافق المجلس على المشروع بشكل غير مباشر، بمجرد موافقته على السلفة.
في الحكومة الحالية، تحول نحاس إلى كابوس يؤرق كل من يدخل إلى مجلس الوزراء. جعل من حبة زيادة الأجور قبة. ففتح عيوناً كانت مغمضة طيلة 15 عاماً. حاول ربط الزيادة بالتغطية الصحية فقامت الدنيا ولم تقعد، قبل أن يتنازل بفصل الموضوعين بعد وعد بأن تقدم وزارة الصحة مشروعاً بهذا الخصوص. قال لعمال لبنان جميعاً (باستثناء قياداتهم) إن لهم حقوقاً سرقتها الدولة منهم بالتحالف مع أصحاب المال. قال لهم إن بدل النقل هو ليس منة من أحد بل احتيال يهدف فقط إلى سرقة تعبكم. جن جنون كل متضرر. تضامن الجميع لمواجهة «مخرب العقول». حتى بعض أهل بيته وقفوا ضده. وحده العماد عون بقي إلى جانبه، ودعمه في إكمال معركته، التي اصطدمت بأكثر من مطب، جعل نحاس يفكر بالانسحاب. كان إيمانه بأنه قادر على ضرب المافيات من داخلها، يجعله يتراجع في كل مرة.
أصدقاء كثر له حاولوا إقناعه بأن التغيير من الداخل لم يعد ممكناً. قالوا له ذلك عندما فشل بإمرار مشروعه للأجور وبقي وحيداً في مواجهة 29 وزيراً. لم يتراجع لأنه ظل مقتنعاً أن عون لن يساوم. ألم يقل «الجنرال» أن الحكومة تطير ولا يطير شربل نحاس؟
ومع إقرار مشروع بدل النقل، صار العبء أكبر. خاصة بعد أن أعلن أنه لن يوقع على مرسوم غير قانوني.
لم يفعل نحاس ذلك لمجرد احترام القانون. وهو سبق وخالف ذلك مراراً، لا سيما عندما حجز أموال البلديات كي لا يقدم أهل السلطة على تجييرها نحو خدمة مأساة الدين العام، وحرمانها لمن يستحقها. خالف القانون ليمنع مخالفة القانون. الفارق بين المخالفتين، أن حجزه أموال البلديات هو أفضل أداة ضغط لإعطائها حقوقها، فيما مخالفة وزارة المالية للقانون، كان هدفها استثمار كل زيادة في الناتج المحلي في خدمة الدين، وإنهاك الأطراف عبر غياب الانماء والمشاريع المنتجة.
صار شربل نحاس أسير رفضه التوقيع. اقتطع ما يعزز موقفه من المواد الدستورية وأهمل ما لا يناسبه. لم يكن الهدف شخصياً. اعتبر أن عدم التوقيع يجعل من بدل النقل حقاً مكتسباً وجزءاً من الراتب، فيما التوقيع يمنع عنه هذه الصفة. ألبس موقفه لباساً قانونياً، فيما كان يصوّب على مكان آخر.
راح نحاس في موقفه حتى النهاية. فلم يحفظ الخيط الفاصل بين الأهداف السامية وبين السياسة. زاد الضغط عليه وعلى عون بضرورة التوقف عن مخالفة الدستور والتوقيع على المرسوم. في هذه اللحظة بالذات، تباعدت الأولويات بين الاثنين. لم يستطع عون إكمال المعركة، فقرر أكل العنب في المجلس النيابي عبر إقرار القانون. لم يثق نحاس بالوعود فرفض الالتزام بما قرره «الناطور».
تضافرت الجهود والمصالح والأخطاء لتحقق حكومة اللون الواحد ما سبق أن حلم به سعد الحريري ولم يستطع تنفيذه عندما كان في الحكم: في جلسة شهود الزور الشهيرة، قال الحريري «الله لا يخليني إذا بخليك يا شربل».
قبل أن يغادر، لم ينس نحاس أن يترك بصمته. فتح كوة في جدار العنصرية المستشرية تجاه الفلسطينيين. وضع «وزير العمال» مشروعاً ثورياً لتحرير العمال الأجانب من مافيا مكاتب الاستخدام، ثم رحل.
يقال إن العماد ميشال عون ظلّ حتى اللحظة الأخيرة متأملا أن يحسبها شربل نحاس جيداً. هذا الرجل لم يكن يحلم بالوزارة إلا إذا حصل مستحيل إمساك اليسار بزمام السلطة، فكيف له أن يخذل من أتى به وزيراً واستفز «تياره» بسببه؟
عندما قال المتصل للعماد عون إن شربل نحاس أحال الى الأمانة العامة لمجلس الوزراء مشروع قانون حماية الأجر، طلب «الجنرال» من جبران باسيل تسليم كتاب الاستقالة الخطية إلى نجيب ميقاتي.. لقد تجرأ على رفض ما طلبه منه «الجنرال»، لكن أن يصل به الأمر إلى التحدي. أنت لا تعرف معنى مخالفة «الأمر لي»...
«الأمر لي» في لبنان، هو ليس مجرد تعبير عسكري. «الأمر لي» هو البطاقة الحمراء التي ترفعها التركيبة ضد كل من يتجرأ على ارتكاب «فاولات» يمكن أن تؤدي إلى أذية «المافيات».