قرر مروان (موظف في مؤسسة تجارية خاصة) منذ عودة ملف المواد الغذائية الفاسدة إلى الواجهة مجدداً، الامتناع عن تناول طعام الغداء في المطاعم، وبات يحمل «زوادته» بما تعده له زوجته صباحا، إلى العمل، وخصوصا من الحبوب.
ولا يقتصر الخوف على مروان فحسب، بل بات يشمل شريحة واسعة من الذين لا يستطيعون تناول الطعام في بيوتهم نهارا. وأظهرت جولة «السفير» على عدد من مطاعم العاصمة وضواحيها، تراجعا حادا في زبائنها، مما دفع بعضها لاتخاذ القرار بالإقفال موقتاً، لحين عودة ملف الأغذية الفاسدة إلى حجمه الطبيعي، حيث لم يعد بامكانها تكبد الخسائر المستمرة منذ أكثر من عشرة أيام.
لا شك أن موضوع الأمن الغذائي من أساسيات الدول، ومن الضروري إعطاؤه الأولوية على أي ملف آخر، لتعلقه بصحة الناس وسلامتهم، فضلا عما يمكن أن ينتج عنه من وفيات. لكن، ما هو مثير للانتباه لبنانيا، ما رافق فتح الملف من قصص وحكايات بعضها صحيح بالضرورة، لكن معظمها ناتج عن خيال خصب، ترجم باطلاق لوائح تتضمن أسماء فنادق ومطاعم ومؤسسات وسوبر ماركت وتجّار، على الانترنت وعبر رسائل الخلوي، غير صادرة عن جهة رسمية. واللافت أن هذه اللائحة التي بدأت بعشرين اسما، تكبر يوميا حتى باتت تضم أكثر من 220 اسما، وفق ما أعلنه رئيس «نقابة أصحاب المطاعم والمقاهي والباتيسري» بول عريس لـ «السفير»، أمس، مشيرا إلى أنه نتيجة هذه اللوائح التي نشرها «مغرضون»، والبلبلة الناجمة عن الموضوع، وقعت المطاعم ضحية، مؤكدا أن الوزارات المعنية أعلنت عدم وجود شكاوى في حق المطاعم، كذلك «مديرية حماية المستهلك» التي تقوم بدوريات مكثفة يوميا على المطاعم، لم تجد شيئا.
«الاستمرار في النفعية الوقحة العمياء»
وفي السياق نفسه، أشار نقيب الأطباء شرف أبو شرف إلى «أن ثمة مؤسسات تطبق نظم الجودة وتعمل بكل شفافية وأخلاق، وتؤمّن الغذاء السليم للمواطن. لكن عدم التشدد في تطبيق القوانين وعدم معاقبة المتاجرين بالسلع الفاسدة، وعدم تسمية المؤسسات المخالفة، حملت هؤلاء إلى الاستمرار في النهج اللاأخلاقي والنفعية الوقحة العمياء التي أدت إلى كوارث صحية واجتماعية»، معتبرا أنه «عندما تغيب الدولة عن القيام بواجباتها تسقط حكما ومعها يقع رجالها في الأشراك التي ينصبون».
ولعل أبرز ما طالب به أبو شرف في مؤتمر صحافي عقده في «بيت الطبيب» أمس، تناول فيه موضوع الغذاء الفاسد،»إخراج السياسة من هذا الملف، مع ترك المسار القضائي ليأخذ مجراه»، معتبرا في الوقت نفسه، أنه لو لم يصب أحد كبار المسؤولين بعوارض خطيرة كادت أن تودي بحياته، فحرّك القضاء والقانون والاعلام، لما عولج موضوع الغذاء الفاسد كما يحصل اليوم».
وأكد أبو شرف «أنه بعد الانكشاف شبه الشامل لكافة المواطنين أمام المخاطر المحدقة بصحتهم، لم تعد سلامة الغذاء مسألة ظرفية أو عابرة، بل أصبحت قضية وطنية تستوجب استنكارا رسميا شاملا»، داعيا إلى «تفعيل طب العمل، وإصدار التشريعات التي تضمن خضوع المؤسسات التي تنتج أو تبيع مواد استهلاكية لإشراف طبيب ليتابع سلامة أوضاعها مع إصدار تقارير دورية تؤكد مراعاتها للشروط الصحية والسهر على تطبيقها».
واعتبر «أن تلوّث الهواء والماء وفساد الغذاء والدواء لم يوفر طائفة ولا تياراً ولا منطقة، بل أصاب كل فئات الشعب». وسأل: «هل أصبحنا وكر ذئاب؟ أم أننا تدجنّا على ثقافة الفساد والتصرف اللاأخلاقي؟ هل انقطع التواصل بين دائرة الأخلاق ودائرتي السياسة والقانون»، مؤكدا «قضيتنا قضية أخلاقية بامتياز، وفي غياب الأخلاقية السياسية لا يشعر المواطنون بانتمائهم إلى الوطن، ولا يرون في دولتهم أي مستقبل، فيشعرون بالإحباط ويقررون الهجرة»، معتبرا أنه «لولا العناية الالهية وأهل العلم والأخلاق والضمير في لبنان لقضي على هذا البلد منذ زمن. ومسلسل الأغذية الفاسدة بالأطنان خير برهان عندنا على صحة الإنسان وأمنه».
«همروجة وستذهب كغيرها»
من جهته أشار بول عريس إلى أن أجهزة الدولة تؤدي واجباتها في هذا الموضوع، ومن الضروري تحديث القوانين المتعلقة بالأمن الغذائي وتفعيلها، لأنه يمس كل المواطنين، ولا يستثني أحدا، حذر من التمادي في خلق الشائعات التي بدأت تضر الاقتصاد الوطني، سائلا: «هل ثمة جهة مسؤولة عن الصحة أو الغذاء، أعلنت منذ أول السنة إلى اليوم، عن اكتشاف حالة تسمم واحدة في المطاعم؟» مضيفا «ما مصلحة أصحاب المطاعم في المخاطرة بصحة زبائنهم، وتاليا ضرب استثماراتهم؟».
وفيما كرر عريس أكثر من مرة، أن «هذه همروجة وستذهب كغيرها»، أكد مجددا «نحن ضحايا، ولم نشارك في الجريمة»، مشيرا إلى «أن ثمة خسائر فادحة يتكبدها قطاع المطاعم نتيجة حالة الذعر المنتشرة بين الناس».
أما على صعيد دور النقابة في هذه القضية، فأقرّ عريس أنها لا تستطيع أن تفعل شيئا، وسأل: «هل من مسؤوليتها تعليق المشانق بحق الفاسدين؟».
وبعدما ألمح إلى وجود مصلحة إسرائيلية تاريخية بضرب قطاع السياحة في لبنان، قال عريس: «إذا ثبت أن هذه اللحوم الفاسدة كانت في إسرائيل، كما قيل أخيرا بعد اكتشاف علامات باللغة العبرية عليها، وبعد الهجوم على الصناعة السياحية في لبنان ومنها نشر اللوائح المغرضة على مواقع الانترنت، لا بد من الربط في هذه المسألة ووضعها ضمن سياق المؤامرات الإسرائيلية لضرب السياحة في لبنان».
«كيف تثار الملفات في البلد!»
وفي الإطار نفسه، شكك نقيب أصحاب الفنادق في لبنان بيار الأشقر أيضا، بالأسماء الواردة في اللوائح، معتبرا «أنها غير صحيحة»، منتقدا كيف تثار الملفات في البلد خصوصا على المستوى السياسي، «بحيث يريد الجميع أن يطرح رأيه في الموضوع، من له مصلحة وغير مصلحة».
وبعدما أكد الأشقر عبر «السفير» أن «تسويق المواد الفاسدة جريمة ويجب معاقبة المسؤولين عنها.. وكقطاع سياحي نستنكرها بشدة»، قلل من تأثير هذه القضية على الحركة السياحية في الربيع، التي تبدو واعدة، وأعلن أن «المؤسسات السياحية الكبيرة لم تتأثر، واقتصر التأثير على بعض المطاعم الصغيرة المنتشرة في الأطراف».
وأشار إلى «أن المعلومات التي لدينا أن البضائع الفاسدة التي ضبطت تبلغ نحو 200 طن، لكن في السوق هناك عشرات الآلاف من الأطنان السليمة، وتاليا من الضروري مقاربة الملف بموضوعية والابتعاد عن المبالغة، ففي نيويورك مثلا أكتشف حديثا مواد فاسدة، لكن لم يصر إلى تضخيم الموضوع كما يحدث في لبنان».
وقال الأشقر: «ثمة مشكلة تتعلق بسوء إدارات التخزين في المؤسسات ومراقبة المشتريات، حيث يخزن بعضها مواد منتهية الصلاحية، وليست بالضرورة فاسدة، ففي فرنسا مثلا توضع على المنتجات الغذائية عبارة «يفضل تناولها قبل التاريخ كذا»، وتاليا يجب ملاحظة الفرق بين المصطلحين».
شطب مؤسسات متورطة
وكانت «غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان» قد شطبت ثلاث مؤسسات، وذلك بعض قرار رئيسها محمد شقير، بشطب أي مؤسسة يثبت أنها تبيع مواد فاسدة، ووضع خط ساخن في الغرفة لتلقي الاتصالات والشكاوى حول أي اكتشاف لأغذية فاسدة.
وفي سياق متصل، بحث «مجلس إدارة غرفة التجارة والصناعة والزراعة في صيدا والجنوب» في اجتماع برئاسة محمد صالح، مشكلة اللحوم والأغذية الفاسدة. وأوضح صالح «أن الغرفة تدرس قرار شطب كل مؤسسة أو شركة ستدان من قبل المحاكم المختصة من جدول الانتساب إليها»، عارضا إمكانية الغرفة بالتعاون مع الوزارات المختصة والبلديات والمؤسسات والشركات كافة عبر المختبر المتطور والمستحدث لديها، والمجهز لكل الفحوصات المخبرية اللازمة بإشراف اختصاصيين لمراقبة صحة اللحوم والأسماك، وكل منتجات التصنيع الغذائي والزراعي، للتأكد من توفر شروط الصحة وفق المعايير الدولية، مؤكدا «المتابعة الجدية لهذه القضية».
وأعلن موقف «الغرفة» المتضامن والمتعاطف مع المواطنين، وشرائح المجتمع كافة، «باعتبار أن الأذى المادي والمعنوي قد يطال المستهلك في صحته، كما يطال التاجر الشريف على السواء».
للإسراع بقانون سلامة الغذاء
في المقابل، طالب رئيس «لجنة الصحة في مجلس النواب» الدكتور عاطف مجدلاني الحكومة بالإسراع في إرسال مشروع قانون بديل لقانون سلامة الغذاء، لإقراره، «ووضع حد لمأساة المواطن الذي لم يعد يعرف ماذا يأكل»، موضحا «أن اقتراح القانون الذي كان يناقش في اللجنة، تعثر إقراره بسبب تجاذبات الوزراء على صلاحيات وزاراتهم، ورفضهم تشكيل هيئة مستقلة تشرف على السلامة خوفا على هذه الصلاحيات».
من جهة أخرى، كلف «مجلس اتحاد بلديات الضاحية الجنوبية» المفارز الصحية في البلديات والأطباء البيطريين بالتدقيق والتشدد لقمع أي مخالفة تضرّ بصحة المواطنين، في مواقع بيع اللحوم والدجاج والأسماك والمطاعم والفنادق كافة. وألزم المجلس جميع الملاحم والمطاعم بوضع لائحة تحدد مصدر اللحوم الموجودة لديهم. وكشف عن ضبط بعض الحالات القليلة جدا غير السليمة، وجرى التعامل معها بحزم، وأتلفت الكميات الفاسدة، وجرى تنظيم اخطارات بحق المحلات المخالفة.
للتعاطي بشفافية وحزم
وتواصلت أمس، البيانات المحذرة من خطورة «فضائح الأمن الغذائي»، حيث رأت «الأمانة العامة لجبهة التحرر العمالي» أنها «أصبحت تهدد حياة المواطنين في صحتهم وصحة أطفالهم وعائلاتهم وتهديد سلامة الاقتصاد الوطني وسمعته»، مشددة على «ضرورة التصدي الجدي والسريع لهذه الظاهرة الوطنية الخطيرة».
أما «جبهة العمل الإسلامي»، و«لقاء الجمعيات والشخصيات الإسلامية» فاعتبرا «أن الأمن الغذائي للمواطن لا يقل أهمية عن أمنه الخاص وحماية رزقه وعائلته، بل أن الفساد الغذائي هو أشد خطرا وفتكا لأنه يدخل إلى كل بيت ويطال كل مواطن كبيرا كان أم صغيرا».