وإذا كانت نيّة هذين الأخوين في القتل، قد اتجهت نحو سائقي سيّارات الأجرة وبعض عابري السبيل، فإنّهما لم يميّزا بينهم في «الأداة الجرمية وطريقة القتل الناشئة عن الغدر بالدرجة الأولى، حيث كانت رصاصة واحدة كفيلة بإزهاق الأرواح، وفي الرأس مباشرة وبدم بارد»، كما يشدّد أبو غيدا على القول في متن قراره الاتهامي. وخلص ابو غيدا إلى طلب الإعدام في جريمة قتل العريف في الجيش اللبناني زياد ذيب، لكونها من اختصاص القضاء العسكري، وهي التي مهّدت الطريق لكشف بقيّة الجرائم.
وما يشدّ الأنظار في اعترافات جورج تانليان هو قوله بأنّه كان يشعر «ببعض الندم بعيد كلّ جريمة مروّعة، ثمّ النوم مع كأس ويسكي»، وهي صراحة قاتلة بحدّ ذاتها وتنمّ عن مشاعر حاقدة وغير إنسانية انجرّ خلفها ليسقط أحد عشر شخصاً في مدة خمسة شهور، أيّ بمعدل ضحيتين في الشهر الواحد، بغية جني حفنة من الأموال التي لا تغني ولا تسمن من جوع، ولكنّها تشتري له قارورة ويسكي تنسيه ما اقترفته يداه بمعاونة شقيقه ميشال، برغم أنّه حاول أن يلبس ثوب المجرم بمفرده وأن يخفّف عن الأخير، ولكنّ حنكة القاضي أبو غيدا أحبطت مخطّطه، وهما اللذان كانا متفقين مسبقاً على تنفيذ عمليات القتل.
وهنا تفاصيل القرار الذي سيكون موضع محاكمة أمام المحكمة العسكرية الدائمة:
«العريف في الجيش اللبناني، المغدور الشاب زياد ذيب، هو الضحية رقم «11» لسفّاحي بيروت المدعى عليهما ميشال وجورج سمير تانليان. إنّ كشف قاتليه، أدّى إلى إماطة اللثام عن جرائم مقتل الضحايا العشر الآخرين. هذه الجرائم التي هزّت مشاعر اللبنانيين وقضّت مضاجعهم، والتي طاولت أبرياء يكدّون خلف لقمة عيشهم من سائقي «تاكسي» وعابري سبيل، كلّهم قتلوا بدم بارد، وبطلق واحد في الرأس غدراً من الخلف. كما أنّ كشف قاتليه، حمى أرواحاً كثيرة، كان يمكن أن تكون ضمن تعداد الضحايا المفترضين للأخوين تانليان، وأنّ دماءه افتدت هؤلاء، وأوقفت مسلسل القتل الرهيب.
وقبل الولوج إلى تفاصيل الجريمة سأعرض بعض أجوبة أحد المدعى عليهما جورج تانليان (مواليد 1973)، والتي تتصف، بفظاعة، وبشاعة، وفظاظة، وصلافة، وعداوة لا مثيل لها:
سئل: عن عدد الأشخاص الذين تم قتلهم؟ أجاب: عشرة، غير الجندي زياد ذيب. سئل: عن الفترة التي تمّت فيها عمليات القتل؟.أجاب: حوالى خمسة أشهر. سئل: ماذا كانت الغاية من القتل؟ أجاب: الكسب المادي. سئل: ما هو شعوره بعد كلّ عملية قتل؟ أجاب: بعض الندم، ثمّ النوم مع كأس ويسكي.
هذه الأجوبة، تذكّرني بالعالم الجنائي الايطالي «تشيزري لومبروزو» الذي هاله بعض الجرائم، وراح يُخضع مرتكبيها للتقييم العلمي ومنهم: المجرم الشهير (جوزيبي) «فيليلا» الذي كان يفاخر بقتله سبعة أبرياء. والمجرم «فرزاني» الشهير بجرائم الخطف والتشنيع. وتوصّل بنتيجة الدراسة إلى نظرية «المجرم بالفطرة»، وملخّصها أنّ ميزات المجرم بالفطرة، فقدانه الشعور الإنساني لا سيّما الشعور بالعطف والشفقة، وفقدان الشعور بالألم، وميله الفطري إلى الشراسة وعدم المبالاة، بالإضافة إلى استهزائه وعدم احترامه لأيّ رادع أخلاقي أو اجتماعي.
إذن المجرمان «فيليلا»، و«فرزاني» كانا مصدر هول وذعر لدى «لومبروزو»، فلو قيّض له وكان على قيد الحياة ـ توفى عام 1909ـ وسمع بجرائم الأخوين تانليان، كان دون شك سيطوّر نظريته «المجرم بالفطرة»، بالإضافة إلى مطالبته بتطبيق نظرية المفكّر الانكليزي «بنتهام» القائلة: «يجب لكي تكون العقوبة رادعة، أن تُحَدّد بطريقة، يكون وزرها أثقل على المجرم، من النفع الذي تدرّه عليه، فيمتنع عنها...».
والآن كيف أقدم المدعى عليهما جورج وميشال تانليان على قتل الجندي زيّاد ذيب؟ بتاريخ 11/11/2011، كان الجندي زياد ذيب يتنزّه مع رفيقه الرقيب أول ريبال سعادة بسيّارة من نوع «هوندا»، وسلكا طريق الحازمية عاليه، ثمّ عادا إلى مستديرة المكلس حيث ترجّل زيّاد، ووقف إلى جانب الطريق بانتظار سيّارة أجرة للعودة إلى منزله.
وبالتاريخ ذاته أعلاه، كان المدعى عليهما ميشال وجورج تانليان، قد أوقفا سيّارة أجرة عمومية من نوع «مرسيدس» بمحلّة سن الفيل، وطلبا من سائقها نقلهما إلى كازينو لبنان، وبوصولهما إلى محلّة الدورة، شارع كنيسة مار مارون، طلب جورج الذي كان في المقعد الخلفي من السائق إيقاف السيّارة. ثمّ شهر مسدّساً حربياً وأطلق عليه طلقاً نارياً واحداً أصابه في مؤخّرة رأسه فأرداه قتيلاً، ثمّ تعاون مع شقيقه ميشال على رمي الجثّة إلى جانب الطريق بعد استيلائهما على الأموال التي كانت بحوزته، والبالغة مئة وستين دولاراً أميركياً.
قاد المدعى عليه جورج السيّارة وتوجّها إلى الأوتوستراد المؤدّي إلى المكلس، سالكين طريق ميرنا الشالوحي، باتجاه الاشرفية، وقبل وصولهما إلى جسر الواطي، شاهدا الجندي زياد ذيب متوقّفاً جانب الطريق بانتظار سيّارة تقلّه إلى منزله، فتوقّفا وصعد معهما لظنّه أنّها سيّارة أجرة يقودها صاحبها، ولم يخطر بباله أنّ مجرمين قد قتلا سائقها قبل قليل، وأنّ دوره هو التالي.
وبالفعل، ما أن وصلت السيّارة إلى الطريق المحاذية لمجرى نهر بيروت، حتّى أوقفها المدعى عليه جورج جانباً، وشهر مسدّسه الحربي، وطلب من الجندي زياد تسليمه ما معه من مال، فرضخ وأعطاه المبلغ الذي كان في جيبه وهو بحدود التسعين ألف ليرة، بالإضافة إلى جهاز خلوي من نوع «نوكيا». بعد ذلك طلب منه فتح باب السيّارة حيث كان يجلس في المقعد الخلفي، وإدارة وجهه نحو الطريق، ففعل، عندها أقدم جورج على إطلاق عيار ناري على رأس زياد، فأصابه بمؤخّرة الرأس لجهة اليسار، حيث وقع خارج السيّارة على الطريق مضرّجاً بدمه، ومفارقاً الحياة. وتابع المدعى عليهما طريقهما، وركنا السيّارة بالقرب من ملعب برج حمود، وعادا إلى منزلهما بمعادلة هي التالية: 160 دولاراً أميركياً، و90 ألف ليرة لبنانية، وجهاز خلوي، مقابل إزهاق حياة سائق تاكسي يكدح وراء لقمة عيشه، وحياة جندي في الجيش اللبناني نذر نفسه لوطنه، إنّها معادلة جرمية لا مثيل لها.
إحباط مخطّط المجرم
ثمّ حاول المدعى عليه جورج أن يحصر الجريمة به وحده، وتخليص شقيقه ميشال منها، لكنّ معادلة الحقّ التي هي الأقوى كانت له بالمرصاد، فوقع وشقيقه بالتناقض، وكان التحقيق على الوجه التالي:
في التحقيق الأولي أمام فرع التحقيق في «شعبة المعلومات» التي كشفت الجريمة، اعترف المدعى عليهما بكافة تفاصيل الوقائع المذكورة أعلاه، وأضافا أنّ المسدّس المستعمل في الجريمة هو من عيار 7,65 ملم، واستخدماه بكافة جرائم القتل العشر الأخرى، واشتراه المدعى عليه ميشال خلال شهر نيسان من العام 2011 مع خمسين طلقة من المدعى عليه راسم الحزوري بمبلغ ستمئة دولار أميركي. وبالتحقيق الاستنطاقي، تراجع المدعى عليه جورج عن إفادته الأولية، لجهة اشتراك شقيقه ميشال معه بالجريمة، فسئل: كم شقيقاً لديك؟ أجاب: نحن سبعة أشقاء. سئل: لماذا أخذت من بين أشقائك السبعة ميشال وليس شقيقاً آخر لتقول في التحقيق الأولي إنّه كان معك؟ أجاب: هذا الذي حصل. سئل: تقول بإفادتك الأولية أنّ ميشال هو الذي اشترى المسدّس، فكيف تقول أمامنا، إنك أنت اشتريته؟ أجاب: أنا في التحقيق صرت أذكر بعض الأشياء عن شقيقي لوجود خلاف شخصي بيني وبينه يتعلّق بزواجي من فتاة كان ينوي الزواج منها.
وتبيّن أنه إثر ذلك، تمّ سماع شقيق المدعى عليهما الشاهد موسيس تانليان وأكّد أن لا عداوة بين أخويه جورج وميشال، وشقيقهما الأخير موريس أكّد أنّه عندما تزوّج جورج، حضر ميشال زفافه وكان مسروراً جدّاً. وكذلك شقيقهما عزيز أكّد حسن العلاقة بين جورج وميشال، ولم يختلفا على أيّة فتاة.
وبالتحقيق الاستنطاقي مع المدعى عليه ميشال، حاول التملّص من اشتراكه بالجريمة وتراجع عن إفادته الأوّلية، لكنّ إنكاره دحض بالتفاصيل الدقيقة عن كيفية حصول عملية القتل، والتي لا يمكن لأيّ شخص إعطاءها لو لم يكن موجوداً، ولتطابق وقائع إفادته مع تلك التي أدلى بها شقيقه جورج بشكل كامل.