هذا «الأضعف» بين الأقوياء، يبخسهم جميعاً، قوة وفعلا أثبت قدرة فائقة توظيفية. ترسمل بضعفه التمثيلي، النيابي والمذهبي والمناطقي، واستثمر نحوله النيابي، في اختراق الجبهات المرصوصة في حكومته، التي ليست له، وليست منه، وليست معه.
عرف من أين تؤكل الكتف. فهو رئيس الحاجة القصوى، وهو الرئيس المستعار من القوى الطرفية لـ«14 آذار»، وهو الممسك العصا من طرفيها ووسطها ويستطيع أن يحركها كما يشاء، إلى أن أصبح «المايسترو» الذي لا يرد له طلب، ولا يرفض له قرار، حتى ولو كان مؤذياً جداً لـ«حزب الله»، ومحرجاً جداً للمقاومة، ومثيراً فائقاً لأعصاب الجنرال عون.
انه قوي من حيث لا يدري أحد.
سئل مرة، بعد جلسة غير ناعمة، هل صحيح يا دولة الرئيس أنك ضربت بقبضتك على الطاولة، كأنك تقول للجميع: «أنا هنا رئيس حكومة لبنان؟». لم يأخذه المراقبون عن جد. ظنوا أنها غلطة غير الشاطر، فهو ليس على قدر القبضة، ولا يستطيع أن يحرك «رجل الكرسي» التي يجلس عليها.
وإذ، بعد أسابيع، يقلب الطاولة على الجميع، ويقفل مجلس الوزراء، ويضع المفتاح في جيبه، ويقرر عدم الدعوة إلى جلسة، إلى أن يتم احترام الأصول وموقع الرئاسة. وكان له أكثر مما أراد وأكثر بكثير مما طلب وأكثر مما توقعه أحد. لقد أعاد ترتيب الطاولة، وترتيب المقاعد، وترتيب الجالسين. وتبين أن «وزير الوزراء» شربل نحاس، ليس بين الحضور.
ما لم يستطعه الرئيس سعد الحريري، في عز قوته وعلى رأس حكومته، حصل عليه ميقاتي. كان يريد رأس شربل نحاس، ولم يستطع أن يمسّ شعرة من مواقفه. كان واثقاً من أنه قادر، فأصيب بالخيبة. ظل نحاس وزيراً، وأقصي الحريري عن رئاستها.
فمن أين له هذه القوة؟
هل هي حاجة «حلفائه» إليه؟ هل هي المعادلة الإقليمية التي نصَّبته رئيساً، ثم رعته ودعمته؟ هل دمشق القوية رافعة لاستمراره؟ فماذا عن دمشق المأزومة؟
كل ذلك ممكن، إلا أن اللغز ليس هذه الأمكنة المعقدة وحدها. فالرجل يتمتع بذكاء، نجد شبيهاً له في بعض أبطال كليلة ودمنة تحديداً. أحياناً يظهر أنه يتفوق على «بيدبا» المجلس، الممسك بخيوط متينة مع «حزب الله» وخيوط متعسرة مع الجنرال، وخيوط ملونة بألوان وليد جنبلاط المتعددة.
عرف منذ البداية، أن كل من ليسوا معه، هم معه بالضرورة. وهذه نعمة اختص بها وحده.
كتلته النيابية تساوي صفراً... ولكن على اليمين. الرئيس بري يجمع ما لا يجمع. أمّن له نصاباً مريحاً. لا ريح تأتيه من مجلس النواب. ضابط الإيقاع، قادر على ترويض الجنرال، وإرضاء جنبلاط، وطمأنة حزب الله، وإبعاد «شرور» 14 آذار عنه.
طائفته السنية، في أكثريتها، ليست معه، ومع ذلك، فهو يغرف منها، كأنها رصيده الغالي. لذلك، بدا أنه أكثر رؤساء الحكومات في لبنان تذكيراً بموقعه السني، وبموقع المدافع عن حقوقهم، وفي طليعة العاملين على منع أي مساس بصلاحياته.
وبدا أكثر الرؤساء اطمئناناً إلى النصاب النيابي، والأكثر إقلاقاً لراحة اللبنانيين، بسبب تمسكه الدائم بسنيته. لم يحارب أي رئيس حكومة في لبنان، بسنيته، مثلما حارب ميقاتي. فاحتفظ بمن كانت رؤوسهم مطلوبة على رؤوس الأشهاد، وحافظ على بعض من اتهموا بأنهم خلف «شهود الزور»، وخلف «الفساد المنظم» وخلف الارتكابات، وخلف المخالفات.
أطاح له الجنرال بشربل نحاس، ولم «يكافئه» بتنحية أو اعفاء «جنرال» واحد، برتبة عقيد أو عميد أو مدعي عام أو مدير عام. بل استطاع أن يحذف أسماء تقدم بها الجنرال، لتحتل مواقعها في الإدارة، وليكون له حصة في مؤسسات الدولة. ما أفلح فيه «الأضعف»، لم ينجح فيه «الأقوى»، على الرغم من التصريحات التحذيرية والتخوينية التي يطلقها الجنرال، وعلى الرغم من التهديدات «بالزحف الأخضر» إلى رئاسة الحكومة.
إنه الملك المتوَّج. يعرف كيف يؤلف موقفاً صلباً، مع رئيس الجمهورية، الساكن في الوسط بلا حول ولا قوة... مع ميقاتي، صار لرئيس الجمهورية، «حول وصول». يعرف كيف يستدرج جنبلاط إلى حيث يقف. ينأى عنه سورياً، ويلتصق به لبنانياً. انها أحلاف الضرورة.
أما حكايته مع «حزب الله»، فشهادة على قوة الحبكة لديه. قيل له لم تفِ. قال: نعم. لم أفِ لأني لم أعد. ميقاتي يعطي كلاماً ولا يعطي وعداً. لذلك، جدد للمحكمة وموَّلها، و«حزب الله» يتصرف وكأنه ينسى، أو كأن الأمر لا يعنيه، علماً أن «الميقاتي» جيء به، ليدرأ خطر المحكمة والقرار الظني وهلم جرا. لم يحصل شيء من ذلك. حصل عكسه. وكانت النتيجة، الدعم الزائد والدائم من «حزب الله» لرئاسة نجيب ميقاتي.
هذا الرئيس القوي جداً، قوته ليست فضيلة أبداً. انه رئيس قوي، في حكومة متعثرة، مخلَّعة، مشلولة، بلا أفق. انه قوي في سلطة تعيش نزاعاً مزمناً. لا موازنة ولا قطع حساب، ولا كهرباء... «لا بالبواخر، ولا بالمعامل». انه قوي في دولة العجز الدائم.
إن الشرعية الوحيدة التي استفاد منها ميقاتي، هي شرعية العجز. «حزب الله» عاجز. «التيار» عاجز. «الحكومة» عاجزة. «مجلس النواب» عاجز. «قانون انتخاب» عاجز. «الأحزاب» عاجزة.
الرئيس ميقاتي قوي جداً، بل هو الأقوى، فوق هذا الركام.
أي ضعف وصلنا إليه؟. أي حالة يرثى لها بلغناها؟. أي سياسة هذه التي يصبح فيها الأضعف... هو الأقوى على الإطلاق؟.
الذكاء وحده لا يكفي ميقاتي كي يكون الأقوى. بين الجبابرة الضعفاء.
وحده العجز، طوَّب هذا الرئيس، كأحد أقوى الرؤساء في لبنان.
هل يصح أن يقال: تبّاً، على الأقل؟.