حين أعلمه العشي قبل يومين أن الغداء مخلوطة، طلب العماد ميشال عون من زوجته الست ناديا وضع يدها في الطبخة: قلت لها، الله يخليكي ديري بالك عليها. «كنت ولا أزال نباتياً على «حبوبيّ»»، يردد مبتسماً إثر تذكره مقابلة صحافية مع طباخة القصر الجمهوري خلال وجوده في بعبدا، روت فيها عن ولعه بالمجدرة. في غياب ضيوف السياسة، غالباً ما يتغدى الجنرال في المطبخ الصغير، على طاولة لا تشبه طاولات أغلبية السياسيين. وفي حال تعذُّر الغداء «tête à tête» مع الست ناديا، فسيكون العشاء كذلك. نحن عائلة متراصة، يقول عون، مستصعباً رداً على السؤال، تفضيل حفيد على آخر.
الأب الذكي بنظر عون، هو الذي يحضر في حياة أبنائه حصراً تقريباً حين يحتاجون إليه. في الصالون المعتم، ثلاثة جنرالات في رجل واحد: الجنرال الأب، الجنرال السياسيّ والجنرال العسكريّ. تلك واحدة من ميزات عون، مقارنة مع سياسيين كثر. فعلى المنبر وأمام الكاميرات غالباً ما يأخذ الجنرال العسكري الحيز كله، مغطياً الجنرالين الآخرين. وفي اللقاءات العونية غير المصورة غالباً، يبسط الجنرال السياسيّ نفوذه على سائر الجنرالات فيه. أما في صالون منزله أو في المكتب الضيق فتكثر النجوم؛ إذ يجتمع الجنرالات الثلاثة. هنا يمكن التعرف إلى عون الحقيقيّ، ويمكن فهم بعض سر تأثر هذا الجزء العريض من المجتمع (المسمى الحالة العونية) بالرجل: يستقبل عون ضيفه بدفق هائل من الحنان والاهتمام ليبني معه خلال دقائق قليلة علاقة شخصية، ثم يستعرض الخيارات السياسية في أية قضية تعرض أمامه قبل أن يختار وفق استراتيجية عسكرية ما يراه الخيار الأفضل ويدافع عنه بعناد، تماماً كما يفعل الجنود الميدانيون. لا يمر عسكريّ متقاعد بهذا المكتب إلا ويذكره عون بحادثة جمعتهما أو وردت إليه بالتواتر، فيشعر العسكري بأن لديه هو والقائد تاريخاً مشتركاً. ولا يمر عوني ناقم إلا ويخرج راضياً. يعلم عون في هذا السياق أن الجنرالات الثلاثة يصعّبون كثيراً مهمة من سيأتي بعده.
خلف المكعبات الباطونية التي أقامتها بلدية الرابية قبيل منزل رئيس تكتل التغيير والإصلاح، يتغير المشهد: تبدو الحياة هنا أقرب إلى جزين أو البلدات الكسروانية النائية منها إلى الرابية. في حياته العسكرية الطويلة، كان يعشق التجوال «قبل طلوع الضو» على خطوط القتال الأمامية، ولا يزال يستيقظ عند الخامسة صباحاً. أول ما يفعله هو حلاقة ذقنه، فزيارة الحديقة الخلفية. نصف ساعة ويعود إلى مطالعة عمودية وسريعة جداً للصحف، ليبدأ بعدها عند السابعة توافد بعض الأصدقاء والمسؤولين في التيار «ممن يمكنهم الدخول من دون موعد». ومنذ التاسعة تكر المواعيد الرسمية التي يعود لسكرتيره توفيق وهبة تحديد الوقت المحدد لكل منها: ساعة أو نصفها، بحسب أهمية الموضوع.
خلافاً لما يشاع، ولبعض السياسيين الذين يتصرفون كأنهم سيعيشون إلى الأبد، بدأ عون أخيراً يردد أمام ناشطين في التيار الوطني الحر يزورونه عبارات تشبه «الأعمار بيد الله وعلينا التفكير جدياً بمستقبل التيار الوطني الحر من بعدي». يمكن الحديث هنا عن حزب وزعيم. بداية التجربة الحزبية العونية قامت على فكرة إنشاء بناء هرمي، فتنتخب القاعدة المناطقية مسؤوليها المحليين والمركزيين وقيادة الحزب. لكن سرعان ما حلت الخلافات الشخصية والعائلية والمناطقية وغيرها محل البرامج في صراع الحزبيين، فألغيت الانتخابات وتوقف كل شيء. يرى عون في ذلك أمراً طبيعياً جداً سيواجه أي حزب يسعى إلى خوض تجربة ديموقراطية حقيقية، مقارناً بين نجاح التجربة العونية التنظيمية في شتى النقابات، والتجربة المناطقية الفاشلة، ليؤكد أن تمرس النقابيين في الانتخابات الديموقراطية جعل المأسسة الحزبية ممكنة في النقابات، فيما هي صعبة في المناطق؛ لأن التجربة الانتخابية الوحيدة على هذا الصعيد هي الانتخابات البلدية التي تطغى عليها التجاذبات العائلية. في النتيجة لم يعد التيار الوطني الحر إلى النقطة الصفر، يمكن في مبنى ميرنا الشالوحي في الجديدة رؤية ماكينة عونية، ليست استثنائية لكنها لم تكن موجودة قبل سنتين. أما الزعامة، فيرفض العماد عون، مهما بلغ إلحاح الصحافيّ عليه، الإشارة إلى هوية من يراه قادراً على وراثته، لأن ذلك يؤثر على رأي الناخبين مستقبلاً، ويمثل فرضاً للوريث بطريقة غير مباشرة. وقد وضعت آلية انتخاب الرئيس في التيار الوطني الحر، وسيبرز برأي عون في الوقت المناسب من يفرض نفسه على الناخبين. ويتمنى الجنرال على الرأي العام العوني الضغط في تلك اللحظة لتذكير المجموعة بأن قيمتها بتكتلها، وأنهم كأفراد لا يساوون شعبياً الكثير. ويشار هنا إلى أن إراحة عون نفسه نسبياً من وجع الرأس في الملف الداخلي التنظيمي أتاحت للجنرال الانشغال أكثر بالملفات الأساسية، كالإصلاح المالي وغيره، وحتى داخل التيار الوطني الحر انتقل النقاش خلال السنة الماضية من صخب يتعلق بهوية هذا المنسق أو ذلك إلى بحث في كيفية اجتذاب الناخبين وتسويق أعمال النواب والوزراء العونيين.
يبلع الصمت الغرفة حين يُسأل الجنرال عمّا إذا كان لا يزال قادراً على الثقة بشخص ما. فخلاصة حروبه، سواء العسكرية أو السياسية، لا توحي بقدرته على ذلك. لكن سرعان ما يقاطع الجنرال وجوهاً تعبر أمام عينيه، مردداً أن الخائن الأكبر في حياته كان ضابطاً تبيّن لاحقاً أنه كان ينسّق مع جهاز الأمن في القوات اللبنانية وسرب بالتالي أسرار قيادة الجيش، طوال الحرب بين الطرفين. خيانته كلفت المئات أرواحهم. أو لعل أكثر من أشعره بمرارة الخيانة هم رفاق السلاح الذين طعنوا بقَسَمهم وانضموا في تلك المرحلة إلى الميليشيات. إلا أن هؤلاء لم يكونوا كثراً. في مقابلهم، فاقهم عدداً العسكريون الذين استشهدوا. يتأثر ميشال عون بمن مشوا إلى الموت لا طمعاً براتب ولا بجنة، وإنما بوطن أفضل.
هوذا سر: يفكر عون بأولئك، ويتأثر بوفود تزوره يومياً لتعلن إيمانها بقدرته وحده على اجتراح معجزة إصلاح الدولة أو وضع الأسس الأولية لإنشائها. أكثرية الشعب تهتم برأيه في الفضيحة نفسها، لا بالجهد الذي أدى لانكشافها أو بالمحاسبة اللاحقة لمرتكبيها. لكن ذلك لا يعني أن الشعب فاسد. ثمة جزء من الشعب جدي في رغبته في الإصلاح ويريد أن يقاصص المسؤولين عن خراب بلده، سواء عبر حبسهم أو عزلهم. في الحرب كانت أكثرية الشعب ضد الميليشيات، ومع ذلك فرض أمر واقع ميليشياوي، حاول الجيش كسره في نهاية الأمر، فنسي المتخاصمون عداواتهم وتحالفوا ضده. واليوم هناك أكثرية شعبية ضد الفساد الذي ينجح أربابه في تسويق أنه أمر واقع لا بد من التعامل معه، ويسارعون إلى تناسي خصوماتهم والتحالف معاً حين يحاول أحدهم كسره.
يبقى عنوانان: شربل نحاس صديق، انتهى تعاون التيار الوطني الحر معه من دون خصومة وستعيد الظروف في المستقبل ترتيب علاقة التيار معه. أما فايز كرم فقال القضاء كلمته بشأنه. يكتفي عون بالعبارة الأخيرة من دون الإيحاء بأن القضاء مسيس أو أي شيء آخر، متمنياً عدم الاستفاضة أكثر في السؤال عن كرم.
في الرابية رجل بجنرالات كثيرة. مَن في المكتب الصغير غيره من يطل على المنابر. يودعك على الباب رجل غير الذي استقبلك. ميشال عون رجل هادئ، تعنيه عاطفياً أخبار أصدقاء الجيش المشتتين من العاقورة إلى الناقورة، يصغي باهتمام إلى مزارع يروي عن موسم الدراق هذه السنة، يصدق قصة «الجمهورية اللبنانية»، تشغله الأوراق المكدسة أمامه موثقة السرقات في هذه الوزارة وتلك الهيئة، ويسره انتقاد الفاتيكان بعده بأكثر من عشرين عاماً لـ«الفكر القمعيّ للولايات المتحدة الأميركية».