يتخوّف كثيرون لدى سماع عبارة الطاقة الذرّية أو النوويّة. تعيد المفردة إلى الذهن أحداث المفاعل النووي في «فوكوشيما» في آذار 2011، وانفجار مفاعل «تشرنوبيل» في الاتحاد السوفياتي السابق في العام 1986، واستخدام «الولايات المتحدة الأميركيّة» القنبلتين النوويتين في أواخر الحرب العالميّة الثانيّة في العام 1945 ضدّ مدينتي «هيروشيما» و«ناكازاكي» في اليابان. إضافة إلى الملف النووي الإيراني..
«يندرج هذا التخوّف ضمن المفاهيم الخاطئة التي تسود في شأن الطاقة الذريّة أو النوويّة، إذ إن نسبة 95 في المئة من استخدام الطاقة الذريّة أو النوويّة هي سلمية»، وفق مدير «الهيئة اللبنانيّة للطاقة الذريّة» الدكتور بلال نصولي.
تنتج الطاقة النوويّة من عمليّة انشطار نواة بعض الذرّات، مثل نواة «اليورانيوم -235» و«البلوتونيوم -239». وينتج من عمليّة انشطار النواة انبعاث أشعة «ألفا» أو «بيتا» أو «غاما» و«نيوترونات» و«بروتونات» وغيرها من الإشعاعات «المؤيّنة» (Ionizing radiation) وتوليد طاقة حراريّة وإشعاعيّة. ينحصر استعمال مفردة الطاقة النوويّة، وفق نصولي، في مجالات استخدام الطاقة الذريّة لتوليد الكهرباء، بينما تستخدم مفردة الطاقة الذريّة في المجالات الأخرى. وهناك فارق بين القنبلة النوويّة والمفاعل النوويّة، إذ إن التفاعل المتسلسل في المفاعل النوويّة منضبط ومحكّم، بينما لا يمكن السيطرة على التفاعل المتسلسل في القنبلة النوويّة.
تشمل التطبيقات السلميّة للطاقة الذريّة قطاعات الزراعة والصناعة والصحّة والبحوث العلميّة. يشرح نصولي أن إخضاع البذور لأشعة «غاما» يُكسب خصائص جديدة مثل مقاومة تقلّبات المناخ والجفاف والجراثيم، ويساعد ذلك في حفظ الأغذيّة لمدّة أطول ويمنحها قدرة على مقاومة الكائنات الدقيقة أو الجراثيم.
تُستخدم في القطاع الصحّي المصادر والمواد المشعّة في الكشف عن بعض الأمراض وتصوير بعض الأعضاء في جسم الإنسان بواسطة الأشعة السينيّة (X-Ray) وأشعة غاما» وفي علاج الأمراض السرطانيّة، إذ يتمّ أحياناً «قتل» الخلايا السرطانيّة بواسطة الأشعة «المؤيّنة».
وتساهم الأشعة هذه في قياس كثافة التربة أو الإسمنت، وسماكة الأفلام البلاستيكيّة. يضيف نصولي أن الأشعة «المؤيّنة»، مثل «غاما»، تساعد في الكشف الدوري عن الهياكل الداخليّة للطائرات، والأنابيب النفطيّة الضخمة. وفي علوم الآثار، يستخدم النظير المشع للعنصر الكيميائي «الكربون 14» وغيره لتحديد مصدر التحف الأثريّة وعمرها.
1500 مصدر مشع
في لبنان، تشمل المؤسسات المستخدمة للأشعة «المؤينة» 241 مؤسسة في القطاع الصحّي، وسبع عشرة مؤسسة صناعيّة، وثماني وعشرين مؤسسة بحثيّة علميّة. يبلغ عدد المصادر المشعّة المستخدمة 1500 مصدر كموّلدات للأشعة السينيّة، منها 1250 مصدراً في ميدان الطبّ، وثمانية وسبعون مصدراً في قطاع الصناعة، مثل المواد المشعّة المصدّرة للنترونات و«جزيء بيتا»، و217 مصدراً في مجال البحوث العلميّة.
تعود تلك الأرقام إلى «الهيئة اللبنانيّة للطاقة الذريّة» التي تأسّست في العام 1996 بمساعدة من «الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة»، وهي احد المراكز العلميّة التابعة لـ«المجلس الوطني للبحوث العلميّة» ومقرّها في بيروت ـ طريق المطار.
تعمل الهيئة على وضع النصوص التشريعيّة والتنظيميّة لرقابة قطاع الأشعة «المؤيّنة» في لبنان، وعلى الرقابة الإشعاعيّة، وتوفير الأمن والأمان النوويين، وتطوير البحوث العلميّة المرتكزة على الاستخدام السلمي للطاقة الذريّة.
أبرم لبنان معاهدة عدم انتشار الأسلحة النوويّة في العام 1973، و«معاهدة التبليغ المبكر عن وقوع حادث نووي» في العام 1996، و«معاهدة تقديم المساعدة في حال وقوع حادث نووي أو طارئ إشعاعي» في العام 1996، و«معاهدة الامان النووي» في العام 1996، و«الحماية الماديّة للمواد النوويّة والمشعّة» في العام 1998، والتزم بـ«مدوّنة قواعد سلوك أمن وآمان المواد المشعّة» في العام 2004، ووقّع تعديلات بروتوكول الكميّات الصغيرة في العام 2007.
استنشاق المواد المشعّة ضمن المسموح
تشمل الرقابة الإشعاعيّة، وفق نصولي، رصد «النويدات» المشعّة الطبيعيّة والنظائر المشعّة الصناعيّة في المواد الغذائيّة، وفي الهواء، وفي مياه الشرب والمياه الجوفيّة، وفي التربة. وتظهر النتائج المخبريّة أن معدّلات الإشعاعات «المؤيّنة» التي يتعرّض لها المواطن اللبناني مقبولة وضمن المعايير المسموح بها عالميّا. مع الإشارة إلى أن التربة والمياه والأغذيّة والهواء تحتوي في العادة على «نويدات» مشعّة طبيعيّة مثل نواة «البوتاسيوم - 40»، التي تنتج من التفكّك الإشعاعي لـ«اليورانيوم» و«الثوريوم». تحتوي مواد البناء وأوراق التبغ على العنصر الكيميائي المشّع، «الرادون»، وغيره من المواد المشعّة الطبيعيّة. وتشير الدراسات العلميّة في لبنان إلى أن كميّة استنشاق هذه المادة ضمن المعدّلات المسموح بها.
وتقوم الهيئة بالترخيص لاستيراد المواد المشّعة والمنشآت المستخدمة للأشعة «المؤيّنة»، ومراقبة الجرعة الإشعاعيّة الفرديّة التي يتعرّض لها العاملون بقطاع الأشعة «المؤيّنة»، وضبط جودة أجهزة الكشف الإشعاعي، والأجهزة المصدّرة للأشعة «المؤيّنة» في المستشفيات.
يضيف نصولي أن الهيئة تتعاون مع مديريّة الجمارك للكشف الإشعاعي الميداني على الخردة المعدنيّة المعدّة للتصدير. فالخردة تحتوي، ربما، على مواد مشعّة ناجمة عن ركام بعض التجهيزات الطبيّة والصناعيّة المستخدمة للمواد المشعّة، ومكافحة الاتجار غير المشروع بالمواد المشعّة وضبطها على الحدود البحريّة والجويّة والبريّة لإرساء الأمن والأمان النووي وفقا لمعايير «الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة». وتعمل الهيئة اليوم على إنشاء شبكة الإنذار الإشعاعي المبكر مؤلّفة من عشرين محطّة لرصد الإشعاعات النوويّة في المناطق اللبنانيّة، وللكشف عن أي خطر إشعاعي ناتج من تسرب نووي.
وقد وضع لبنان الخطّة الوطنيّة لمواجهة الكوارث النوويّة، الإشعاعيّة، الكيميائيّة، البيولوجيّة الطارئة في حزيران العام 2011 لتنظيم إستراتيجيات المواجهة والتخطيط لها.
تحوي النفايات الطبيّة مواد مشعّة يصعب التخلّص منها. وحتى العام 2009، قامت الهيئة بالتعاون مع الوكالة الدوليّة بنقل ست وثلاثين مادة مشعّة غير مستخدمة إلى أوروبا، ويتمّ العمل حاليّا على نقل عشرة مصادر مشعّة خطرة موجودة في بعض المستشفيات اللبنانيّة. تضمّ الهيئة مخزناً موقّتاً للنفايات المشعّة وتعمل على وضع إستراتيجيّة لتخزين المواد المشّعة بشكل آمن داخل المنشآت التي تستخدمها.
الآلة الوحيدة في المنطقة
ترتكز مهمات الهيئة على تطوير البحوث العلميّة المتعلّقة بالاستخدام السلمي للطاقة الذريّة، إذ تضمّ الهيئة أربعة عشر مختبراً، وخمسة وستّين عاملاً بينهم أربعون مهندساً وتقنياً، و12 باحثاً. تجاوز عدد البحوث العلميّة الصادرة عن الهيئة في المجلات العالمية، 135 في الأعوام العشرة الماضية.
تملك الهيئة آلة «مطيافية الكتلة بواسطة زمن الطيران» أو «TOF-SIMS»، الوحيدة في الدول العربيّة، التي تسمح بدراسة الخصائص الكيميائيّة والجزيئيّة للمواد والأسطح الصلبة في البحوث الطبيّة والصناعيّة. وتستخدم هذه الآلة لفحص نوعيّة الطلاء وميزاته ودراسة مكّونات الأدويّة والكشف عن الأدويّة المزوّرة.
تتعاون الهيئة مع «مصرف لبنان» لإجراء الفحوص المخبريّة على الأوراق النقديّة والقطع المعدنيّة، بغية التأكّد من مطابقتها الشروط الموضوعة. وتعمل الهيئة على الكشف عن العملات المزوّرة بواسطة تقنيات نوويّة متطوّرة.
يدرس مختبر الإشعاع الغذائي أثر الإشعاع بعنصر «cobalt-60» على المنتجات الغذائيّة بغيّة تحسين الأمن الغذائي، والحدّ من الخسائر الناجمة عن تلف الأغذيّة. ويهتمّ مختبر «الكربون ـ 14» بتحديد تلوّث المياه والآثار القديمة.
يساعد المسرّع النووي في دراسة مكوّنات المواد وتركيزها من خلال افتعال تفاعل نووي مع المادة. ينتج من هذا التفاعل انبعاث أشعة «مؤيّنة» يمكن قياسها وتحليلها. فعلى سبيل المثال، يستخدم المسرّع النووي لتحديد مصدر الفخاريات، والمواد السامة في الهواء، والمواد الملوّثة في التراب، وفحص مكوّنات الأدويّة. تقوم الهيئة سنويّا بتحليل أكثر من مئة عيّنة بواسطة المسرّع النووي.
وفي شباط الماضي، حصل مختبر «أشعة غاما» على شهادة «5ISO 1702 » للمرّة الأولى في الدول العربيّة، ويقوم بتحليل أكثر من ألف وخمسمئة عينة في السنة.
تتعاون الهيئة مع معظم الجامعات اللبنانيّة وتستقبل طلاباً في مرحلتي الماجستير والدكتوراه بالشراكة مع جامعات أجنبيّة، وتعمل على تدريب التقنيين والاختصاصيين من مختلف الدول العربيّة.