الناس في الضاحية تعرفهم. لا تعرف أسماءهم أو أعمارهم أو طبيعة عملهم الحقيقيّة، لكنها تعرف أن لهم وجوهاً مجهولة بقية التفاصيل. كانت لهم لحى مشذبة غالباً، وثياب سوداء بمقاسات متقاربة. وكانت لهم، بلا أدنى شك، نسبة الحضور الأعلى في الشارع. كلّ ما يحيط بهم ظل مجهولاً تماماً إلا وجوههم المتشابهة. اختفى حراس «الشورى» أمس. في صيغة الشارع الجديدة، لا مكان لهؤلاء الرجال الذين كانوا يعلنون «هوية» المنطقة، ويعرّفون الداخل إليها إلى ثقافة أهلها: شارع الشورى، معقل المقاومة. اختفى هؤلاء بوصفهم معلماً من المعالم، ولا شك أنهم كانوا موجودين أمس بثيابٍ أخرى. هم أيضاً، كما المباني، ارتدوا زيّاً جديداً. كبر الأولاد الذين كانوا يدورون بدراجاتهم الهوائيّة حول الشجرة أيضاً. كان الجميع حاضراً أمس في «افتتاح شارع الشورى».
«كما تعرفون لهذه المنطقة رمزيّة خاصة، فهنا كان المربع الأمني». هكذا يقول مدير مشروع «وعد» حسن الجشي، في تعريفه عن المكان الغنيّ عن التعريف. لكن ذلك يعني أن «مكاتب نواب كتلة الوفاء للمقاومة انتقلت إلى مكانٍ آخر». صار الشارع سكنيّاً بامتياز، وامتلأ بعدد المباني القديمة نفسه، وبالسكان الأصليين. حتى الطبقات لم تنقص أو تزيد. الشارع الذي اتسع، بعد استغلال المساحات الميتة، يفترض أن يكون صورة نموذجيّة عن الشوارع التي تتفرع منه، من مسجد الحسنين وصولاً إلى شارع السيد عباس الموسوي. وبالنسبة إلى الفروقات «الفنية» المضافة التي يلحظها السكان، يقول الجشي إنها «تحمل بصمات المعماري رهيف فياض».
في احتفالهم بتدشين الشارع، كان الحاضرون يحملون الورود الملونة. كأنهم أطفال في مدرسة. بيد أن هذه «الرقة» تتبخر تدريجاً، إذ يُسألون عن «مصير» الضاحية، في حربٍ قد تقبل فجأة. تتباين مواقفهم كما تتباين الظلال على المباني النظيفة. بعضهم يعتدّ بثقة بالنفس، فيرفع رأسهم متوعداً: «حارة حريك مقابل تل أبيب». وهذه «معادلة رعب» أخرى ينتظرون أن يطلقها «السيد نصر الله نفسه في احتفال سيقام لاحقاً لإعلان إنهاء إعادة الإعمار». بعضهم يحاول أنّ يكون متزناً، فيستبعد حدوث الحرب الكريهة. واحد من هؤلاء يطلب منّا الاستمتاع بالطقس الربيعي، والالتفات إلى أحواض الورد التي زُرعت، ونقاء السماء. لا تنقصه الثقة هو الآخر، إذ يعلن في نهاية المطاف: «لو عدتم عدنا». وعلى نقيضٍ من المعتدّين، يبدو مسنٌ أكثر سعادة من الجميع. يلتهم الشارع بعينيه كأنه استعاد عزيزاً. هذا الرجل لا يحبذ فكرة الحرب، ويلعنها. وإن حدثت فـ«لا حول ولا قوة إلا بالله».
الحرب لم تنل من «شجرة الشورى». ما زالت في مكانها، في منتصف الشارع تماماً. الطيران الحربي ليس فوقها هذه المرة. شجرة عملاقة، لا أحد يفهم كيف نجت، ولماذا أخطأتها قاذفات الموت المعادية. لم تعرف الموت، لكنها عرفت معنى الوحدة قبل نهوض الركام. الرجال الذين يقبضون على أجهزة الاتصالات اللاسلكيّة موجودون أيضاً. والناس عادوا. ديموغرافياً، عادت حارة حريك كما كانت، مع فارق طفيف في صورتها. كأنها «نيو شورى» لا مربعات فيها ولا من يربّعون. الشارع بصورته «الراقية» مقصوص من الأحزمة القريبة. وفي الأساس، يعرف من حفظ أزقة الحارة جيداً أنه كان مستطيلاً أمنيّاً. ما زال طوله أكثر من عرضه. لا أحد يفهم تسمية المربع الأمني، لكن الجميع يتداولها للدلالة ... «على منزل السيد القديم».
الناس يشعرون بوجود السيد حسن نصر الله في المكان. «الشورى» مكان مرتبط به ولا يمكن النقاش في ذلك. هنا كان يستقبل زواره، وهنا كانت «الأمانة العامة». صحيح أن المشهد تغير، لكنه لن يكون عصيّاً على الزوار القدامى، كالنائب وليد جنبلاط مثلاً. الناس سعداء بعودة الشارع، لكن عودة نصر الله شيء مختلف. حدث آخر بالنسبة إلى مناصريه. تتسع ابتساماتهم إذا حضرت سيرته، وتكبر خدودهم كأنها حُقنت بالفرح. ثمة شعور خفيّ يداعب هؤلاء، بأن إقامته مستمرة في المكان: «لا بدّ أنه هنا، في مكانٍ ما، قريب، ربما يكون أقرب مما نتصور».