بعد أشهر من الانتظار، كشف الستار أخيراً عن «الفتوى» التي ابتكرها كل من محافظ بيروت ناصيف قالوش، ورئيس بلديتها بلال حمد، لهدم البيوت التراثية. فمنذ سقوط مبنى فسوح في كانون الثاني الفائت، انتظر العاملون، والمهتمون، في قطاع المحافظة على تراث مدينة بيروت لمعرفة الطرق التي ستتبعها البلدية وأصحاب البيوت القديمة لتحريرها من قرار منع الهدم الصادر عن مجلس الوزراء سنة 1999، الذي جدّد له سنة 2010 (راجع الأخبار العددان 1614 و 1626). لم يتبلّغ المعنيون السياسة البديلة التي ستتبع، بل تبلّغوا ما حصل أخيراً، إذ أرسل فاكس إلى مكتب رئيس شرطة بيروت، مذيّل بتوقيع المحافظ، ومختوم في أعلاه بـ«فوري». الرسالة مقتضبة جداً. ثلاثة أسطر تطلب إخلاء المبنيين القائمين على ثلاثة عقارات في شارع جان ـــــ دارك في منطقة الحمراء.
تقول الرسالة إنه «بعد الكشف على الأبنية القائمة في العقارات 333 – 334 – 335 تبين أنها متصدعة ويجب إخلاؤها فوراً». هذه الرسالة، أما الواقع، فمغاير تماماً. الأبنية في هذه العقارات خالية أصلاً من السكان، وهي ليست متصدّعة، بل تراثية. ويؤكد مصدر في المديرية العامة للآثار «أن هذه الأبنية تراثية وفي حالة جيدة من المحافظة، ولا تمثّل خطراً على السلامة العامة، ويمكن ترميمها».
من كشف على هذه الأبنية؟ مصادر في بلدية بيروت تقول إنها اللجنة التي تعمل على تحديد لوائح البيوت التي تمثّل خطراً على السلامة العامة. وهنا يطرح السؤال: لماذا طلب الإخلاء الفوري؟ ولماذا توقف التعاون مع المديرية العامة للآثار، فلم يصل الطلب إلى وزارة الثقافة؟ التفسير قد يكون أن طلب الإخلاء هو المرحلة الأولى، أما الموافقة على الهدم، فستأتي لاحقاً.
هذا التطوّر يطرح مجدداً قضية المديرية العامة للآثار، المطلوب منها أن تقف أمام رأس المال، فتوقف ورش الهدم حينما تستدركها، أو تلاحظ عمليات التفكيك في البيوت القديمة، من دون أن تتوافر لها أيّ مقومات، إذ لم يبق في المديرية سوى مهندسين اثنين يعملان منذ أشهر على مدينة بيروت أولاً، وباقي لبنان ثانياً. المهندسان يكشفان، يقدمان التقارير، يجتمعان باللجان، يناقشان، يناضلان، حتى إن أحدهما يدافع عن ملفاته بنفسه أمام قضاة مجلس شورى الدولة! المهندس خالد الرفاعي يقف أمام مكاتب محامي أكبر العقارات في بيروت ليبرهن للقاضي أن المباني القائمة ذات قيمة تراثية، وأن المحافظة عليها واجب وطني.
لكن هذا الملف لا تديره وزارة الثقافة وحدهاـ بل تتشارك المسؤولية فيه مع البلديات والتنظيم المدني. يقول خالد الرفاعي، المهندس المسؤول عن الأبنية التاريخية في المديرية العامة للآثار «في بيروت لا يمكن الوصول إلى حلّ، إلا بعد إعادة النظر في نظام البناء المعمول به في المناطق التي تضم نسيجاً عمرانياً. وطالما بقي عامل الاستثمار مرتفعاً جداً، يبقى حافز هدم الأبنية التراثية معمولاً به. لأنه حين يعطى أصحاب العقار الحق في بناء أبراج، مؤلفة من أكثر من 20 طبقة في أي منطقة، يتحول البيت القديم الى كابوس. فهدمه واستبداله بأبراج باطونية يعنيان ربح ملايين الدولارات. أما فيما لو حدّد علوّ الأبنية بأربع طبقات في الأحياء ذات الطابع التراثي، لما أقدم أصحاب العقارات على بيع بيوتهم وهدمها لأن قيمتها المضافة هي في تاريخها». يتابع: «ما لم يتغير نظام البناء، فلن تستطيع الدولة اللبنانية بكل إداراتها أن تحافظ على مبانيها التراثية وهوية مدينتها، كما أن البنية التحتية في بيروت لا تحتمل هذا الضغط العمراني والسكني».
قبل أسابيع اجتمع نواب بيروت للمطالبة بالمحافظة على ميدان سباق الخيل الروماني، لأن تراث بيروت وتاريخها يهمانهم. فأين هم اليوم؟ لماذا لا يتحركون؟ لماذا لا يعملون على تأمين الغطاء السياسي للمحافظة على تاريخ المدينة وهويتها؟ لماذا لا يطالبون بالتغيير في هذا الوضع؟ وهل أصوات ناخبيهم في العاصمة وراحتهم المادية أهم من تاريخ العاصمة؟