قلّما أُعطيت حكومة، في أقل من سنة، تأكيد ثقة الغالبية النيابية بها مرتين. في تموز 2011 حازت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الثقة الأولى بغالبية 68 صوتاً من 70 نائباً حضروا جلسة مجلس النواب، وفي نيسان 2012 حازت الثقة الثانية بعيد مناقشة عامة ساخنة لسياستها بغالبية 63 صوتاً من 66 نائباً حضروا. في المرتين اقتصرت الثقة على الأكثرية الموالية في غياب شبه كامل للمعارضة التي قاطعت التصويت بمغادرة القاعة.
لكن الحصيلة واحدة بفروق حسابية لم تعد ذات أهمية. نالت حكومة ميقاتي أكثرية نسبية بعد حصولها في المرة السابقة على الأكثرية المطلقة. في الأولى فُرض تأليفها على قوى 14 آذار بعدما أخرجت بالقوة من الحكم على أثر إطاحة حكومة الرئيس سعد الحريري. وفي الثانية جدّدت الثقة بعد إصرار هذا الفريق على جلسة لمناقشة الحكومة ومحاسبتها والتلويح بطرح الثقة بوزيرين ثم التخلي سريعاً عنه، والاكتفاء بالتعرّض لسمعتها والتشهير بوزرائها وتهشيم صورتها في الداخل والخارج، وإلحاق شتى النعوت والاتهامات بها دونما مكافأتها بطرح الثقة بها، إدراكاً منه بعجزه عن استعادة الغالبية لإسقاطها من داخل البرلمان.
أيّ تصرّف، إذاً، كان يتوقعه أيّ مراقب للجلسة الأخيرة للمناقشة العامة تُقدم عليه حكومة ميقاتي عند تخييرها بين الإجابة عن سؤالين، أو تجديد الثقة بها بأصوات ائتلاف الغالبية الحالية؟
الواقع أن هذا بالذات، لا حملات المعارضة عليها، ما كان يعني حكومة ميقاتي فعلاً وتلحّ عليه، ويتجنّبه في الوقت نفسه أحد أبرز مصادر الائتلاف، رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط، كي لا يُعيد تأكيد وجوده فيه، ولا يُرغَم على إنكاره أو التخلي عنه، وهو بالكاد معلّق على حافة الائتلاف الرخو:
بطرح الثقة بها أو من دونه، تدرك حكومة ميقاتي أنها باقية في الحكم إلى أن تجري انتخابات صيف 2013، سواء عُزي صمودها إلى مبرّرات محلية تقيم في ثبات الأكثرية الحالية وفي صلبها جنبلاط، أو إلى مبرّرات خارجية تلتقي عليها سوريا ومناوئو نظامها من العرب والغرب معاً، بتحييد لبنان عن المواجهة مع الرئيس بشّار الأسد، ودعم استقراره في ظلّ حكومة يمثل حزب الله ـــــ الحليف الأقرب إلى دمشق ـــــ عمودها الفقري.
بذلك لم يتوهّم أحد، في الموالاة والمعارضة، أن جلسة المناقشة العامة، أو أي سبب آخر لا يمتّ إلى الأزمة السورية بصلة مباشرة، من شأنه في هذا الوقت بالذات الإخلال بتوازن القوى في لبنان. كانت الصورة المعبّرة بجلاء صارخ عن الاعتراف المتبادل بهذا الواقع، أن النواب اكتفوا في الأيام الثلاثة بتوجيه الاتهامات والشتائم والإهانات والتشهير بالفساد والإهدار والسرقة والصفقات واستغلال السلطة والمال العام والتهديد بالقوة وزعزعة الاستقرار ونبش السمعة والقبور ومَن فيها، ماضياً وحاضراً، ليس إلا.
كان ذلك هو المتوقع قبل انعقاد الجلسات إلى أن لوّح النائب سامي الجميّل بطرح الثقة بالحكومة، وتعليق هذا التهديد على إجابته عن سؤالين. للفور سارع المعارضون ونواب جنبلاط إلى ثنيه عن مطلبه، تفادياً لتقديم مكافأة إلى حكومة ميقاتي عندما تجد في التصويت على الثقة مكاسب تفوق الإجابة عن سؤالين. لا يسعها القبول بأولهما، وهو تأليف لجنة تحقيق برلمانية في موضوع الكهرباء يضعها في دائرة الشبهة والاتهام والخضوع لمساءلة نيابية ذات صفة قضائية، لا تضع نفسها حتماً في موقعها. ولا تملك في ثانيهما ردّاً صريحاً عن تنفيذ حكم مجلس شورى الدولة بتسديد مبلغ كبير من المال للوزير نقولا فتوش هو مثار جدل بين الوزراء أنفسهم.
وسواء باغَتَ الجميّل حلفاءه بطلبه، أو بالَغَ في التمسّك به، أو نُظر إليه على أنه خيارٌ حتميٌّ لمسار جلسات المناقشة ومداخلته والاتهامات التي ساقها ضد الوزراء يمنحه إياه النظام الداخلي للبرلمان، إلا أن خاتمة الجلسات ألقت ضوءاً كاشفاً على موقفين بالغي التمايز، في الغالبية والأقلية، يمثلهما جنبلاط وحزب الكتائب عبر الرئيس أمين الجميّل بدايةً، ثم نجله نائب المتن. كلاهما، جنبلاط والجميّل، يُفصحان ـــــ وهما يتحدّثان عن الخصوصية ـــــ عن حال اعتراض وتذمّر داخل فريقي 8 و14 آذار:
1 ــ لم يفترق الجميّل الابن عن حلفائه في طرح الثقة بالحكومة فحسب، بل أيضاً في كثير ممّا أورده في مداخلته، عندما أجمَلَ الحكومات السابقة والحالية في ارتكاب الأخطاء والإهدار والمسؤولية، وعندما تمسّك بحياد يقترب من سياسة النأي بالنفس، ورفض التدخّل في الأزمة السورية رغم إعلان مناوئته النظام، وسرده ملفات ملتبسة اقترنت بقوى 14 آذار وحكومات الرئيسين رفيق الحريري وفؤاد السنيورة. في كل هذه المواقف كان على طرف نقيض من قوى 14 آذار، التي لا تعترف بأخطاء ارتكبتها حكومات الحريري الأب والسنيورة، وأبرأت ذمتها من الصفقات والإهدار.
لم تكن خصوصية الجميّل الابن بنت ساعتها، ولا انبثقت من جلسات المناقشة. استفاض والده الرئيس السابق مراراً في تمييز موقفه من أزمة سوريا عن شركائه، عندما أقرن عدم التدخّل في الشأن اللبناني بعدم التدخّل في الشأن السوري، ودعا إلى الحياد، وأيّد حواراً وطنياً بلا شروط يرفضه حلفاؤه. ترافق ذلك مع رفض الجميّل الأب والابن سلاح حزب الله وضرب التوازن الداخلي ونتائج الانتخابات بقوة هذا السلاح.
2 - سبق جنبلاط الجميّل إلى إعلان خصوصيته منذ آب 2009، ثم مرّت هذه بمحطات متناقضة، من الخروج من قوى 14 آذار ومصالحة سوريا إلى القطيعة النهائية. لا يجمعه بقوى 8 آذار سوى خيطين رفيعين: رفضه نزع سلاح حزب الله رغم دعوته إلى دمجه في الجيش في الوقت الملائم عبر استراتيجيا دفاعية، وتمسّكه بحكومة ميقاتي في ظروف لا تتيح في الوقت الحاضر عودة قوى 14 آذار إلى السلطة.
برّرت ذلك معارضة جنبلاط طرح الثقة بالحكومة من الموالاة والمعارضة معاً. لا يُريد تجديدها كي لا يُرغم على التصويت لها، ويُحرج في موقع اختاره قبل أكثر من سنة بين قوى 8 و14 آذار، ولا التصويت كذلك ضد الثقة بحكومة يرأسها حليفه في مرحلة لا تمكّنه تماماً من إعلان انفصاله النهائي عن قوى 8 آذار وذهابه إلى الفريق الآخر. وبمقدار اقترابه من المعارضة وتبادله وتيّار المستقبل التمسّك بقانون 2008 لانتخابات 2013، لا تزال القطيعة ـــــ علناً في أحسن الأحوال ـــــ تسود علاقته بالحريري الابن، ولا يتوقع فتح الرياض أبوابها له قبل تقويضه كلياً الأكثرية الحالية وإعادتها إلى قوى 14آذار.
3 - لا تضع الخصوصية التي تميّز مواقف جنبلاط وحزب الكتائب من حلفائهما في مواقع واحد. يُباعد بينهما الملفان الأكثر إثارة لاشتباك كل منهما مع حلفائه من دون أن يلتقيا عليهما: جنبلاط مع التدخّل في الشأن السوري والجميّل الأب يعارضه، والجميّل الأب ضد سلاح حزب الله وجنبلاط يبرّره.