وتبدأ في فرنسا عملية اقتراع قد تكون الأغرب أيضاً، إذ تختلط دوافع انفعالية على مستوى الجماعة، بعوامل سياسية تحتل المرتبة الثانية، في اختيار الناخبين الفرنسيين الرئيس المقبل للجمهورية الفرنسية الخامسة. وبات مصير الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي مغلقاً باتساع ظاهرة البغض التي يثيرها شخصه وسلوكه لدى أكثر من نصف الفرنسيين. ويقوم اقتراع هؤلاء على نوع من النقمة أكثر مما يقوم على دوافع سياسية، حتى ولو كانوا من حزب الرئيس. والفرنسيون الجمهوريون تقليداً، ملكيون في القلب، ويعتبرون أن لمنصب رئيس الجمهورية هالة ملكية أفرط فيها رئيس أدارها بطريقة حديثي النعمة والمتسلقين.
لن يكون دقيقاً افتتاح الحديث عن الانتخابات الرئاسية الفرنسية بإعلان توجه 44.5 مليون ناخب خلال الساعات المقبلة إلى صناديق الجولة الانتخابية الأولى. ذلك أن رقم الذين سيمتنعون عن التصويت قد يكون الحدث الرئيس في استحقاق الغد الأحد. إذ يخيم رهان كبير على تفضيل ثلث المسجلين على اللوائح، اختتام أسبوعين من عطلة الفصح بهدوء في منازلهم أو في صيد السمك، بعيداً عن جلبة الحملة الانتخابية. وتواجه مؤسسات الاستطلاع قبل المرشحين ساعة الحقيقة عند الثامنة من مساء الأحد عندما تغلق صناديق الاقتراع وتنشر النتائج شبه النهائية للجولة الأولى بشكل متزامن.
وسعت الساعات الأخيرة من الحملات الانتخابية لإقناع هؤلاء بشكل خاص، بالخروج من اعتصامهم السياسي ومنح الجمهورية وريقاتهم الانتخابية، لكي يصح التمثيل وتشتد شرعية الاستحقاق. وحتى الساعات الأخيرة، كان اكثر من نصف الناخبين لا يزال يعتبر الأداء والتقديمات الانتخابية والترويج لها، مملاً وغير مقنع.
وبرغم اتساع الترشيحات لتشمل عشرة متسابقين إلى الإليزيه، إلا ان الفرنسيين يعرفون منذ البداية، انه سيكون عليهم استبقاء اثنين منهم للجولة الثانية. ولا توجد أي مؤشرات تدل على احتمال وقوع مفاجآت تقلب معادلة ثابتة في الجمهورية الخامسة، في انتقاء رئيس من يمين الوسط الذي يمثله الرئيس، أو يسار الوسط الذي يرفع أعلامه فرانسوا هولاند. ولكن ترجرج الاستطلاعات، والمفاجآت التي مثلها الصعود السريع لمرشح اليسار جان لوك ميلانشون إلى نسبة قياسية بلغت 15 في المئة من الأصوات تسمح مع التهافت المستمر لقاعدة الرئيس ساركوزي، بفتح الدورة الأولى على كل الاحتمالات، بما فيها تقدم مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن على الرئيس ساركوزي، وتجعل جان لوك ميلانشون يحلم بصوت عال، بولوج الدورة الثانية لينافس مرشح الاشتراكي فرانسوا هولاند.
وتقول الاستطلاعات الأخيرة إن ثلث من يقترعون، قد يغيرون رأيهم في اللحظة الأخيرة، وهو سبب إضافي يتيح القول باحتمال استفادة مرشحي اليسار كجان لوك ميلانشون، واليمين المتطرف كمارين لوبان بعدد من الأصوات اكبر مما تمنحهم إياه الاستطلاعات. وهو هامش يستثني الرئيس ساركوزي، لأن 80 في المئة ممن يقترعون له او ضده، لن يغيروا موقفهم.
وباستثناء فرانسوا هولاند، الذي تتوجه الاستطلاعات متقدماً على الجميع في الدورة الأولى، وفائزاً أكيداً على الرئيس ساركوزي بفارق 16 نقطة قياسية في الدورة الثانية، يجمع المرشحون التسعة ومن كل الاتجاهات على تكذيب الاستطلاعات، واعتبار ان المفاجأة لا تزال ممكنة. ويستطيع الرئيس ساركوزي، من بين جميع المرشحين ربما، التشكيك بصدق الاستطلاعات وصحة توقعاتها، نظراً لهامش الخطأ بنسبة نقطتين، ولتجاوزه ما منحته الاستطلاعات إياه بثلاث نقاط في الجولة الأولى من انتخابات العام 2007.
ويدخل الرئيس ساركوزي الدورة الأولى بأسوأ الأرقام في مواجهة خصمه، وفي ادنى التوقعات التي تمنحه إياها الاستطلاعات منذ بداية الحملة. اذ اظهرت الموجة الأخيرة منها، تراجع الرئيس ساركوزي من 28 إلى 25 في المئة من اصوات الناخبين يوم امس. ويتمتع المرشح الاشتراكي بتقدم مريح بنسبة 29 في المئة من المؤيدين في الدورة الأولى، وتبشره الاستطلاعات بنصر بالضربة القاضية بنسبة 58 في المئة من الأصوات.
وخلال اليومين الماضيين، خرج الرئيس ساركوزي عن عادة الإياب قبل الثامنة مساءً إلى قصر الإليزيه، وتناول عشاء عائلي، والاستمتاع بنوم مبكر. وأمضى يومين عاصفين في الشد على الأيدي وتقبيل الوجنات التي صادفها في التجمعات التي نظمها حزبه في ضواحي باريس. وأبدى الرئيس قدراً غير مسبوق من النشاط والطاقة، والتحدث بصوت عال في الاحتفالات التي توالت في الهواء الطلق، لاحتلال وسائل الإعلام، والتعويض عن تراجعه في الاستطلاعات.
ويقف الرئيس ساركوزي حائراً بين أركان حملته الانتخابية وانقسامهم بين من يدعوه إلى الاستمرار في العزف على وتر شعارات اليمين المتطرف وانتقاد الإسلام والعداء للمهاجرين الأجانب التي ساعدته على رفع شعبيته في الأشهر الماضية، وبين من دفعوه في الأسبوع الأخير إلى الاعتدال في شعاراته، وقبول مراجعة جزئية للمعاهدة الأوروبية وتعديل دور المصرف المركزي الأوروبي، ليهتم بمسألة النمو الاقتصادي بشكل خاص، وهو أمر ينال تأييد ناخبي الوسط بشكل خاص. وأدت التعرجات إلى فقدانه تأييد جزء من القاعدتين.
وتمتحن غداً صدقية الاستطلاعات. وإذا ما تحققت الأرقام التي تحدثت عنها، ستكون الجولة الأولى حاسمة في تحديد الفائز في الانتخابات، نظراً أولاً للهزيمة الرمزية الكبيرة التي ستنتج عن حلول رئيس في الإليزيه خلف مرشح لم يحتل اي منصب حكومي طيلة سيرته السياسية، ولأن الرئيس ساركوزي يفتقد إلى الديناميكية الكافية لتعبئة اليمين من حوله او الوسط في الجولة الثانية، ليحظى خصمه وحده باحتياطي من الأصوات، يسمح له براحة كبيرة، باستحواذ الـ20 في المئة من اصوات اليسار والخضر، وجزء مهم من اصوات ناخبي الوسط، والطبقات الشعبية التي تنتخب لليمين المتطرف.
وحتى الغد يتوقف الكلام السياسي، ويمنع القانون الانتخابي اي تصريح للمرشحين، وتصمت الاستطلاعات، التي تتوقف عن نشر بياناتها، تاركة للناخبين 24 ساعة لتقرير مصير الإليزيه.