يظهر الأفراد ذوو السلوكيات الإدمانيّة، وفق الاختصاصي بالأمراض النفسيّة والعقليّة الدكتور أسامة دحدوح، رغبّة ملحّة لا يمكن كبحها في ممارسة سلوك معيّن، وشعورا بالقلق والسوء في حال التوقّف، وعدم القدرة على التخلّي عمّا يدمنونه، بالرغم من النتائج السلبيّة للسلوك المتبّع، والتخلي عن معظم النشاطات الأخرى بغيّة ممارسة نشاط معيّن، وتدهور في الروابط الاجتماعيّة والأسريّة والمهنيّة.
ويلاحظ دحدوح، خلال المؤتمر الطبّي الذي عقده «مستشفى الصليب للأمراض العقليّة والنفسيّة» بعنوان «الإدمان من دون مخدّر»، يومي الجمعة والسبت الفائتين، أن السلوكيات الإدمانيّة تظهر في الغالب في عمر المراهقة، إذ يعيد المراهق تشكيل قيمه باحثاً عن الاختلاف ورافضا للتقاليد.
تختلف الشخصيات التي تظهر سلوكا إدمانيّا، وفق البروفسور جوليان دانيال غيلفي من «جامعة باريس الخامسة»، إذ لا توجد شخصيّة إدمانيّة واحدة ذات سمات محدّدة.
يشرح الاختصاصي بأمراض الإدمان الدكتور فرنسوا قزعور أن الأفراد الذين يظهرون سلوكيات إدمانيّة يملكون استعداداً بيولوجيا وجينيّا للإدمان، إذ يعاني هؤلاء الأفراد خللا في الناقلات العصبيّة مثل «الدوبامين» و«السيروتونين». لا يشعر المرء بمتعة إلا في السلوك الذي يدمن عليه من دون أن توفّر له النشاطات العاديّة شعوراً بالفرح أو المتعة. وتساعد العوامل الخارجيّة، مثل الأوضاع الاجتماعيّة والتعليميّة، في ظهور سلوكيات الإدمان.
يلفت الاختصاصي في الأمراض النفسيّة والعقليّة الدكتور فؤاد طحان إلى أن السلوكيات الإدمانيّة تترافق مع اضطرابات في المزاج وشعور بالقلق. وتختلف الفرضيات التفسيريّة، إذ يمكن اعتبار الإدمان محاولة لإخماد القلق الداخلي أو التأقلّم معه، أو مؤشّرا لاضطراب نفسيّ أو مسبّباً له. ويعاني الأشخاص الذين يظهرون سلوكا إدمانيّاً وشعوراً بالقلق من انخفاض في معدّل الناقل العصبي «السيروتونين» الذي يؤثّر في انفعالاتهم وطريقة التحكّم بها.
يسجّل انتشار الرهاب الاجتماعي نسبة 1,5 في المئة في المجتمع بشكل عام ويسجل القلق نسبة 5,8 في المئة. في المقابل، ترتفع هذه المعدّلات عند الأشخاص المدمنين ليصل معدّل انتشار الرهاب الاجتماعي إلى 13,4 في المئة ومعدّل القلق إلى 22,9 في المئة.
الألعاب
وعاني نحو واحد إلى ثلاثة في المئة من الأشخاص في العالم إدمانا على ألعاب مرضيّة، مثل القمار والميسر أغلبيتهم من الذكور والشباب وذوي مستوى اقتصادي اجتماعي متدّنٍّ ومطلّقين أو منفصلين.
ووفق الاختصاصي بالأمراض العقليّة والنفسيّة الدكتور رامي بوخليل، يظهر هؤلاء المدمنون حاجة ملحّة إلى اللعب، واضطرابات سلوكيّة كالكذب واقتراض الأموال، وشعورا بالتوتر والقلق في حال الإقلاع عن اللعب.
ويلاحظ أن المدمن على الألعاب هو أكثر عرضة بثلاثة أضعاف للإصابة بالاكتئاب، وستة أضعاف للإصابة برهاب اجتماعيّ، وثمانية أضعاف للإصابة باضطرابات في الشخصيّة.
ويشرح أن المدمن على الألعاب يظهر خللا في وظيفة قشرة الفص الجبهي (جزء من الدماغ) واضطرابات في الذاكرة، وفي التخطيط وفي إدارة الوقت، وحساسيّة أقلّ للخسارة والربح. ووفق الدراسات العلميّة، يظهر أهل المدمنين اضطرابات اكتئاب أو سلوكيات إدمانيّة أكثر من الأشخاص العاديين.
تلجأ نسبة عشرة في المئة فقط من مدمني الألعاب إلى طلب العلاج بسبب عدم اعتراف الأغلبيّة باضطرابهم. يرتكز العلاج على المتابعة السلوكيّة المعرفيّة التي تساعد في تحديد المشكلة الرئيسة وفي توجيه المدمن.
في الفترة المقبلة ستنشر مجلّة «journal of clinical psychopharmacology»، ورقة علميّة لبوخليل في شأن إمكان علاج إدمان الألعاب بواسطة مضادات مستقبلات «الدوبامين».
السلطة
قال المفكّر الإيرلندي إدموند بيرك ( 1729-1797): «مدمنو القوّة لا يمكنهم التخلّي عنها». وأكّد الاختصاصي في الأمراض النفسيّة والعقليّة البروفسور منير خاني، خلال مداخلته، أن إدمان السلطة يخفي شخصيّة نرجسيّة، انفعاليّة، تستجدي الانتباه الدائم، تعتقد أنها مثاليّة ويمكنها الحصول على ما تريد. يخبّئ مدمن السلطة والقوّة في بعض الأحيان حادثة صادمة، أو سوء معاملة في عمر الطفولة، وكأن السلطة تعوض ما خسره في فترات سابقة. ينتهي مصير بعض المدمنين، وفق خاني، بالإصابة بجنون العظمة أو «البارانويا»، إذ يغدون غير قادرين على رؤية الواقع كما هو.
الشراء
عانى الملك الفرنسي لويس الرابع عشر (1638-1715) والملكة ماري أنطوانيت (1755-1793)، زوجة الملك الفرنسي لويس السادس عشر، إدمان الشراء. وتقدّر الدراسات الإحصائيّة أن نسبة واحد إلى عشرة في المئة من الأشخاص يعانون إدمانا على التسوّق. تركّز النساء، وفق الدكتورة جيزيل قزعور، على شراء الثياب والحلي وأدوات التجميل بينما يهتمّ الرجال بشراء الأجهزة الإلكترونيّة والسيارات وغيرها.
يعتبر بعض المحلّلين أن السلوك الإدماني تعويض عن الإشباع الجنسي، ويرى البعض الآخر أن الإدمان يدلّ على صراع يعيشه الشخص مع نفسه، أو وسيلة دفاعيّة يواجه الشخص بها مشاكله الوجوديّة والذاتيّة.
واستنادا إلى التحاليل العلميّة، تشمل المحفزّات العاطفيّة لإدمان التسوّق الشعور بالضجر، الضغط النفسي، الغضب، الاكتئاب، والانفعال. وترتكز عوامل الخطر النفسيّة على عدم تقدير الذات، القلق، الحاجة إلى التنويه، والشعور بالانتقام. خلال التسوّق، يشعر المدمن بالفرح والمتعة، غير أنه يصاب بالحزن والشعور بالذنب بعد الانتهاء منه.
وتشير قزعور إلى أن إدمان التسوّق يترافق مع إدمان الكحول بنسبة 18 في المئة، ومع الإدمان على المخدّرات بنسبة 22 في المئة، ومع الإصابة بالاكتئاب بنسبة واحد وستين في المئة، والقلق بنسبة 15 في المئة، والشره (البوليميا) بنسبة تسعة في المئة واضطراب الوسواس القهري بنسبة ثلاثة في المئة. ويرتكز العلاج على الأدوية والبرامج السلوكيّة المعرفيّة.
الاكتناز
يعاني بعض الأشخاص من اضطراب الاكتناز (Hoarding)، أي عدم القدرة على التخلّص من الأشياء أو الأدوات التي يستخدمونها، مما يجعل الأمكنة التي يوجدون فيها مكدّسة بالأشياء والأدوات.
يشكّل هؤلاء الأشخاص نسبة اثنين إلى خمسة في المئة من أفراد المجتمع. ويعتبر الرجال والمتقدّمون في العمر والمصابون باضطراب الوسواس القهري أكثر عرضة للإصابة باضطراب الاكتناز. وتشير الأرقام، وفق رئيس قسم الأمراض النفسيّة والعقليّة في «مستشفى الصليب» الدكتور دوري هاشم، إلى أن نسبة عشرين إلى أربعين في المئة من الأشخاص الذين يعانون الوسواس القهري يظهرون عوارض الاكتناز.
يظهر التصوير المقطعي بالإصدار «البوزيتروني» (Pet scan) اختلافا في عمليّة أيض الكلوكوز في الدماغ بين الأشخاص الذين يعانون الاكتناز والوسواس القهري وبين الذين يعانون اضطراب الوسواس القهري فحسب.
يدمن بعض الأشخاص اكتناز الكتب أو الحيوانات محاولين ملء فراغهم العاطفي، وحاجتهم إلى علاقة مع شخص آخر، أو إلى مواجهة حادثة صدميّة تعرضوا لها في عمر الطفولة. يشمل العلاج، وفق هاشم، وصف أدويّة كيميائيّة والمساندة النفسيّة السلوكيّة لمعرفة الأسباب الكامنة وراء عمليّة التخزين وتطوير مهارات أخذ القرار.
التديّن
لا يرى مدير «مستشفى بهمان» في القاهرة الدكتور ناصر لوزا «اختلافا بين إدمان التديّن والسلوكيات الإدمانيّة الأخرى. ويظهر مدمن الدين أو الطائفة تشدّدا غير مقنع وغير منطقي لبعض الأفكار أو المعتقدات الدينيّة، يحاول من خلاله الهروب من مواجهة الواقع المعاش. يعيش المدمن حالة من الشعور بالذنب، والانعزال عن المجتمع، والمحيط. لا يوجد الكثير من الدراسات العلميّة حول الإدمان على التديّن. مما يوجب، وفق لوزا، العمل على تطوير البحوث النفسيّة للتوعيّة والوقاية من النتائج الخطيرة التي من الممكن أن يولّدها إدمان التديّن كالانتحار الجماعي والعمليات الإرهابيّة».