قاعدة البحث واضحة مهما حاول كثيرون تفاديها او تجميلها. غضب يسيطر على الشارع السني. أسبابه متنوعة. داخلياً سببه رفض اقصاء القوى المتزعمة للغالبية السنية عن الحكم، واقليمياً، سببه الازمة السورية وعجز عن اسقاط نظام يعتبر غالبية السنة انه ممثل لحكم اقلوي من طائفة اخرى. لكن القاعدة التي تغلي في الشارع السني، اليوم، لا تريد محاسبة المقصرين من اهلها. هي تعاقبهم من خلال تجاهل لارادتهم. هذه القاعدة تريد تحصل «حقوق» تعتبر انها مغتصبة. وهي حقوق لا تقف عند استعادة دور مقرر في ادارة الحكم، او إبعاد من يعتبرون في نظرها ممثلين غير حقيقيين عنها. بل تتجاوز الامر، الى انتزاع حق مناصرة المعارضة السورية بالمال والسلاح قبل الموقف والدعاء. وهي قاعدة فقدت ثقتها بالدولة ما لم تكن تحت اشرافها. الناس الآن يريدون تطبيقاً فعلياً لا لفظياً لشعار سعد الحريري: أنا او غضب الاهالي!.
يجري ذلك، بينما تكثر تداعيات الحدث السوري. من فشل تحويل حدود الاردن والعراق وتركيا الى قواعد دعم فعالة للمعارضة السورية، وخصوصا المسلحة منها، ما حتم اللجوء الى لبنان. حيث توجد قاعدة سياسية كبيرة مناصرة للمعارضة السورية. ما يجعل السؤال واجباً: هل قرر خصوم سوريا بناء هذه القاعدة الآن، ام قرر حلفاء سوريا توجيه ضربة استباقية؟
على ان الوقائع، تتحول الى مشهد سياسي آخر. السلطة السياسية غارفة في لعبة «النأي بالنفس»، وهي لعبة يرفضها الشارع من الجانبين، وخصوصا الشارع السني. والجيش يتعرض لاختبار شرعية تمثيله وحدة البلاد. في مقابل تعريض بقية القوى الامنية لاختبار الخضوع للسيطرة السياسية. يكفي ان تخرج قيادات تملك نفوذاً قوياً على الارض، لتطلب ابعاد الجيش او استبداله بقوى الامن الداخلي، وتطلب هذا القضاء وترفض القضاء الاخر، حتى نعرف ان هذه القيادات والمناطق الخاضعة لنفوذها، صارت خارج الدولة. صارت هي تختار من الدولة ما يناسبها الى حين ترتب هي دولتها!.
الجديد، هو تعرض السلطة الحزبية الى اهتزاز هو الاعنف. امس، تطابقت خطب القيادات من فريقي النزاع في لبنان حول ضرورة الهدوء. لكن جوهر الامر يتعلق بالسلطة على الارض. لأن من افترش الشارع، لم يعد يستمع كثيرا لهذه الخطب. امس، قرر مناصرو التيار السلفي، في الشمال على وجه الخصوص، ومناصروه في بقية لبنان على وجه العموم، ان القرار بات بيد الشارع، وبات على وجه الدقة، بيد من يقدر على رفض حسابات الواقعية السياسية ويمضي بعيدا في المواجهة.
صحيح ان خسارة الدولة لسلطتها على مناطق واسعة في الشمال يمثل نكسة لكل لبنان. كما ان تعرض هيبة الجيش لضربة هنا، تجعله بلا هيبة في امكنة اخرى. كما ان انعزال منطقة او عزلها سيتسبب لاهلها بمتاعب كثيرة. لكن الصحيح اكثر، هو ان «طابخ السم آكله». والمقصود هنا، ان فريق 14 اذار بقيادة تيار «المستقبل»، والذي لم يتوقف يوما عن الاستهانة بالبشر من خلال استخدام الجمهور لاجل معارك تخص مصالح قيادات هذا الفريق، يفشل اليوم، في احتواء هذا الجمهور. امس، كان نواب المستقبل، كما نواب 14 اذار وشخصياتها، في حالة ذهول بدرجة اعلى من الاخرين. هم يرفعون الصوت بأعلى مما هي عليه العادة. لكن في خلفية عقولهم، صورة جديدة. حيث جلس لاعب جديد على الطاولة. هو لاعب له اسماء وعناوين كثيرة اليوم، لكنه سرعان ما سيتشكل على صورة هيئة لها شخصياتها المعنوية كما لها آليات عملها ومطالبها. هذا اللاعب الجديد، ما كان لينتزع تعاطف «القاعدة السنية» في بقية البلاد، لولا شعور هذه القاعدة، بأن القيادة التقليدية التي فوّضها القرار على مدى سنوات طويلة، لم تحصد له الا الخسائر والهزائم.
أحداث الامس، وما هو متوقع من تتمة لها، أجهزت على سلاح خبيث، كان سعد الحريري يلوح به في وجه خصومه من بقية اللبنانيين. وهو يقايضهم: انا او السلفيون ومعهم شارع غاضب. تجاهل الحريري، ان الجمهور الغاضب، كما السلفيين، هم اصحاب حيثية حقيقية. وانه لا يمكن له استخدامهم ليل نهار. وها هم اليوم، يقولون له انهم يترجمون المواقف افعالاً، وما عليك الا الانضمام الينا، او الابتعاد... والخلاصة ان الشارع قال: الامر لي!.
الانظار يجب ان تتركز في الايام القليلة المقبلة، الى قيادة تيار «المستقبل» وقوى 14 آذار. فهل تنضم الى الغضب الشعبي، وتعلن رفضها الدولة كسقف فوق الجميع، ام انها تبحث عن حيلة جديدة، في زمن لم يبق فيه سحرة... حتى في روايات الاطفال!