لم يقتصر النحس الذي لاحَقَ الأمن على طرابلس والكويخات، ثم قرى عدة في عكار، نزولاً إلى بيروت، ثم صعوداً إلى بشري. بل أتى بعد ذلك تطوران أمنيان لا صلة لهما بالداخل، ولا تبرير لحصولهما في رقعة وقوعهما. أحدهما في ريف حلب والآخر في الرمادي في العراق، فضاعفا من وطأة الاحتقان الداخلي، وأخصّه المذهبي، مع تنامي وتيرة الفلتان الأمني. ظهر حادثا حلب والرمادي بأنهما يستهدفان الطائفة الشيعية بعد أحداث طرابلس وعكّار التي أوحت باستهداف الطائفة السنّية.
بذلك بدت البلاد بلا رأس ولا كعب، والأمن مكشوفاً. لا أحد بين الأفرقاء، مسكوناً بهاجس المذهبية تارة وباقتراب الانتخابات النيابية طوراً، يريد توفير غطاء سياسي للجيش لوقف التسيّب.
هكذا يعبر لبنان مرحلة تشبه ما تعرفه دروس المؤسسة العسكرية وتجاربها «دورة اليأس والنحس». وترتبط هذه المقاربة بمعطيات، منها:
1 ــ لا رابط مباشراً وحتمياً بين ما حدث في طرابلس ثم الكويخات وامتداده إلى كل عكّار، ثم إلى بيروت، من دون إغفال أحداث مشابهة شهدها البقاع الغربي وطريق بيروت ـــ صيدا، وقبلها طريق طرابلس ـــ بيروت، من قطع للطرق وإحراق إطارات وإطلاق شعارات غير مفهومة وغير مبرّرة تستفزّ الجيش وتحضّه على المواجهة وتسعير التشنّج المذهبي، وصولاً قبل يومين إلى غضب بشري. إلا أن نتائج هذه الأحداث، ومحاولة ربطها بعضها ببعض، بدت منسّقة ومنظّمة ـــ وكانت اشتباكات الطريق الجديدة إحداها ـــ توخّت وضع الجيش في مواجهة الناس وثالثهم المفاجأة.
2 ــ رغم أن لبنان كان باستمرار في صلب التأثر بأحداث المنطقة، القريبة كما البعيدة، بيد أن ما يجري في سوريا غير مسبوق بالنسبة إلى كليهما. نظام صارم يتفكّك وعلى أهبة الدخول في حرب أهلية، ويشهد تدخّلات دولية غير مألوفة تجعل من المتعذّر توقع حلّ سياسي خارجي قريب، أو حل أمني داخلي وشيك. تحت وطأة الأزمة السورية، يجد لبنان نفسه محاصراً بتناقض المواقف العربية والدولية منه حيال ما يجري هناك. بينما يدعو بعضها إلى إبعاد هذا البلد عن أحداث سوريا، يتحرّك البعض الآخر في منحى تشجيع إقامة منطقة عازلة في الشمال تشكل قاعدة إمداد وملاذ آمن للمعارضة السورية المسلحة. تريّثت تركيا في إنشاء منطقة عازلة على حدودها، ورفض الأردن والعراق، فأمسى لبنان الأكثر استعداداً لملء هذا الفراغ في منطقة سيطرة ميليشيات وتنظيمات سلفية وحزبية تناهض النظام السوري وتوفر الدعم لمعارضيه المسلحين. في جانب رئيسي من أحداث طرابلس وعكّار التحضير لبلوغ هذا الهدف.
3 ــ انقسام سياسي حاد بين قوى 8 و14 آذار حيال الأزمة السورية أفضى إلى اصطفاف الطرفين في موقعين متناقضين يوشكان على الاشتباك. أحدهما مع نظام الرئيس بشّار الأسد، والآخر ضده ويجهر بسعيه إلى إسقاطه. ورغم تذرّعهما بعدم الرغبة في التأثر بأحداث سوريا، إلا أن كل ما يجري من حول خلافاتهما الجوهرية يقيم في قلب هذه الأزمة، كما في الأزمة الخليجية ـــ الإيرانية. ليس من قبيل المبالغة القول إن شقاً رئيسياً من الخلاف على سلاح حزب الله مرتبط برفض التمدّد الإيراني إلى لبنان، كجزء لا يتجزأ من مواجهة التغلغل الإيراني في المنطقة، من الخليج إلى العراق وسوريا والمسألة الفلسطينية وصولاً إلى هذا البلد، أكثر منه شعار وضع قرار السلم والحرب في يد الدولة اللبنانية.
لم يسبق للبنان، قبل الحرب الأهلية ولا بعدها، أن امتلك قرار السلم والحرب وهو في قلب نزاعات إقليمية ساخنة، اجتذبته إليها منذ نهاية الأربعينيات مروراً بمنتصف الخمسينيات حتى أواخر الستينيات. لم يُعطَ مرة على مرّ هذه العقود قرار الحرب الذي لم يتخذه منفرداً تحت وطأة الصراع العربي ـــ الإسرائيلي، وتحديداً السوري ـــ الإسرائيلي. وحيل دائماً دون وضع قرار السلم في يده. وكما يختلف اللبنانيون الآن على النظام في سوريا، اختلفوا قبلاً، ولا يزالون، على مصدر سلاح حزب الله ومساره ومصيره.
4 ــ تتسابق هذه الأحداث في ظلّ سلطة سياسية تمثّلها الأكثرية النيابية الحالية، غير وفاقية منذ وُضِعت السلطة الإجرائية في يد فريق يدور في فلك سياسي واحد. مع ذلك تتشعّب تناقضات أطرافه من الخلاف على المحكمة الدولية، إلى الخلاف على العلاقة مع سوريا، إلى التباعد المبطّن على سلاح حزب الله، وصولاً إلى علاقات لبنان العربية والدولية. ذلك هو واقع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي تجعل رئيس الجمهورية ميشال سليمان وحليفه رئيس الحكومة في موقع، ورئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط في موقع، وأطراف 8 آذار في موقع آخر. باتت الأحداث الصغيرة ـــ لا الأحداث الكبيرة ـــ أكثر قدرة على اختبار ارتباك السلطة الحالية لإيجاد حلول بلا كلفة سياسية أو أمنية.
5 ــ اقتراب موعد الانتخابات النيابية التي يُعوّل الأفرقاء جميعاً على حساباتها، وعدم اتخاذ خطوات أو دعم إجراءات ترتب مسؤوليات في أكثر من اتجاه ينعكس على الناخبين، وخصوصاً في قلب المذاهب. آل ذلك إلى افتقار الجيش إلى الغطاء السياسي وتجريد الأمن من سقوفه. منذ محاولة انتشاره على الحدود الشمالية، وفي عكّار والقرى القريبة من الحدود السورية، واجه الجيش التشكيك ووقع بين اتهامه بدعم النظام السوري عبر مراقبته الحدود ومنع دخول النازحين (بمَن فيهم المعارضون الفارّون والمسلحون) وبين فقدانه الغطاء السياسي لحماية دوره. بل عَكَسَ الجدل الذي أحاط بالجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء ومطالبة بعض الوزراء بإعلان الشمال منطقة عسكرية، ورفض البعض الآخر، حجم الانقسام بإزاء دور الجيش من الأزمة السورية.
أبرَزَت ذلك أيضاً بضعة اجتماعات عقدها المجلس الأعلى للدفاع لم يترجمها مجلس الوزراء بقرارات فعلية، ما خلا تأكيده دعم المؤسسة العسكرية في القيام بمهماتها. في كل مرة انعقد المجلس الأعلى للدفاع أحيط التئامه بهالة مبالغ بها حيال ما ناط الجيش القيام به، من غير أن يُضاعف فاعلية المؤسسة العسكرية في دورها إلى أن وجدت نفسها، في أحداث طرابلس وعكّار، أمام أزمة في علاقتها بالتيّارات السلفية وباتت وجهاً لوجه أمام الطائفة السنّية.
لا يملك المجلس الأعلى للدفاع كمجلس الوزراء سلطة القرار، ولا يعدو كونه هيئة تقتصر إجراءاتها على اتخاذ توصيات فحسب، ويُنظر إليه كمجمع مواقع يشغلها أصحابها المسؤولون الأمنيون أكثر منه معبّراً عن مشاركة سياسية أو تمثيلية كالتي يمثلها مجلس الوزراء. وهو بذلك صورة مكبّرة عن مجلس الأمن المركزي، بينما يضع الدستور القرار في عهدة السلطة الإجرائية التي تتريّث ــ تبعاً لتناقض مواقف أفرقائها من دور الجيش حيال الأزمة السورية وامتداداتها إلى الداخل اللبناني ــ في الوصول إلى موقف جامع من الجيش وتوفير الغطاء السياسي الكامل لكل قراراته.
والحرّي أن موقفها يصبح أكثر صعوبة في ظلّ غياب توافق وطني داخلي على الموقف من سوريا، كما على دور الجيش منها أيضاً.
6 ــ يعيش الجيش بتوتر ويتصرّف بتوتر، وكذلك الناس. الاثنان خائفان. يعمل الجيش في مناخ سياسي وأمني وإعلامي لا يُحسد عليه يُضاعف من وطأة استنفاره وقلقه وخوفه من الخطأ، في دورياته وعند حواجزه، حيال نفسه والآخرين، ما يحيل مهمته أكثر اضطراباً، ويضعه في مواجهة اتهامات الآخرين وانتقاداتهم وتهشيمهم إياه، قبل أن يتيقنوا من حاجتهم إليه وضرورة الإحاطة به.
هكذا، في ظلّ مناخ خارجي وداخلي مضطرب وسلطة يائسة، تأتي دورة النحس كي تُحدث ترابطاً بين أحداث غير مترابطة. لا تتطابق دوافعها وتعقيداتها، إلا أنها تؤول إلى خاتمة تضع الجميع وجهاً لوجه في أزمة فلتان وتسيّب وفوضى.