على ان الانفعال والتبخيس، لا يقللان من قيمة المبادرة التاريخية التي طرحها "السيد"، والتي يفترض أن يتلقفها "نظريا" كل من ينتمي الى "حزب الدولة" في لبنان وهم أغلبية اللبنانيين، بمعزل عن انقساماتهم واصطفافاتهم، وهذا يوجب بالحد الادنى مقاربة هادئة للمبادرة، سواء من حيث توقيتها، أو من حيث مضمونها والغاية التي يتوخاها منها، وأين اتفاق الطائف في المبادرة، وهل هي تنسفه أم تكمله وتطوره؟
وبصرف النظر عن المقاربات السلبية لبعض "قوى 14 آذار"، ثمة ملاحظات عدة، يمكن استخلاصها من مبادرة نصرالله:
الاولى، انها تنطوي على تأكيد متجدد للبنانية "حزب الله"، علما انه سبق له أن جسد هويته اللبنانية بالممارسة من خلال دوره الطليعي في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي ودحره عن أرض بلده بلا قيد أو شرط.
الثانية، انها تستبطن تطمينا لكل الفئات اللبنانية على ان لبنان ليس دولة "حزب الله"، وان هدف الحزب هو ان يكون واحدا من مكونات المجتمع اللبناني وليس المهيمن عليه أو المتحكم بأمره أو الساعي لتبديل هويته.
الثالثة، أن ضعف الدولة وأحيانا تلاشيها، أدى الى تقدم دور "حزب الله" وقبله قوى أخرى حملت راية المقاومة، من منطلق رفض سياسة التخلي عن واجب حماية الحدود والأرض والناس.
الرابعة، انها تنطق بإدانة شديدة الوضوح للنظام السياسي الذي لم يستطع أن يبني ولو الحد الادنى من دولة أو شبه دولة بحد أدنى من مواصفات العدالة والمواطنية والمؤسسات.
الخامسة، انها تؤكد إيمان "حزب الله" بالدولة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وهذا يعد تطورا غير مسبوق منذ الرسالة المفتوحة التي وجهها الحزب في العام 1985 وضمنها برنامجه السياسي ورؤيته للواقع المحلي والاقليمي والدولي، وكذلك الوثيقة التأسيسية التي أعلنها السيد نصرالله في 30 تشرين 2009، اذ انها المرة الاولى التي يقدم فيها "حزب الله"، عبر أمينه العام، هذا التوكيد الكبير على الدولة، ومن قبل جهة متهمة بأن أصل وجودها هو ضد الدولة ويتناقض معها وأنها تسعى لأن تكون دولة ضمن الدولة، ولعل هذا الايمان هو النتيجة الموضوعية للتدرج في موقف الحزب منذ فترة في التأكيد على فكرة الدولة.
السادسة، انها كناية عن إعلان مباشر من قبل "حزب الله" بالعبور الصريح الى الدولة في الوقت الذي ترفع فيه بعض القوى الدولة شعارا، انما بالممارسة تدك أسسها وتبني في موازاتها كياناتها ومحمياتها، على أنواعها.
السابعة، انها تؤكد أنها أول فكرة لإصلاح جذري وجدي وحقيقي شامل يتناول أصل المشكلة نحو بناء لبنان الدولة. بينما كانت كل الأفكار الإصلاحية السابقة التي سبق أن طرحت قبل الحرب أو خلالها أو بعدها تمحورت حول الدعوة لإصلاح جزئي أو ترقيعي للنظام الطائفي، بما في ذلك الطائف نفسه.
ويقول حزبيون ان نصرالله لم يضبط إيقاع مبادرته وفق ما يمكن أن يتناسب مع مصلحة "حزب الله" حصرا، بل على إيقاع الأمن والأمان المفقودين في اللحظة الراهنة، ما يهدد بسقوط الهيكل برمته، ولعل استشعار "السيد" بالخطر أكثر من أي وقت مضى هو الذي دفعه الى رمي هذا الحجر الكبير في المستنقع السياسي الراكد، حيث وضع الحلفاء والخصوم معا، أمام مسؤولياتهم وأمام التحدي الكبير بإثبات جهوزيتهم لملاقاة يده الممدودة والخروج من المراوحة القاتلة ومن الدوران في الحلقة المفرغة التي يدور فيها لبنان، أقله منذ العام 2005 وحتى اليوم.
فالهيكل اللبناني، كما يقول هؤلاء الحزبيون، "يتهدده خطر كبير يتبدى بوجود مشروع للتفتيت الممنهج للمنطقة يقوده الأميركيون وهدفه إعادة بناء هياكل قومية وطائفية وإثنية وقبائلية، والشواهد كثيرة في المنطقة وفي لبنان المهدّد في كيانه وشعبه وجغرافيته ومكوناته كلها، أو بالاحرى أقلياته كلها، السنية والشيعية والمسيحية والدرزية، فلا حياة لهذا على حساب ذاك، فالكل سواسية على هذا المذبح. ومن هنا شاء "السيد" أن يحدث بمبادرته صدمة للشريك الآخر على قاعدة "اللهم اشهد اني قد بلغت، اللهم اشهد اني قد سعيت، اللهم اشهد اني أحاول مد الجسور بين اللبنانيين، فتعالوا نخرج من خوفنا وعصبياتنا ومتاريسنا و"مربعاتنا" السياسية والطائفية والمذهبية، لأن التجارب أثبتت أن لا أحد يستطيع أن يعيش وحده أو أن يبني دولته، فتعالوا نفوت الفرصة على المتآمرين ونثبت أننا قادرون على أن نحدد مصيرنا المشترك ونثبت أننا قادرون على أن نبني الدولة الكاملة المتكاملة أمام مشهد التحلل في الدولة ومؤسساتها".
واذا كان البعض لا يرى في مبادرة نصرالله إيجابياتها، بل يفسرها على أنها مبادرة استهدافية للطائف، وكذلك لضرب الحوار الرئاسي، خاصة أنها تتزامن مع الدعوة التي وجهها رئيس الجمهورية ميشال سليمان في الحادي عشر من الشهر الجاري، وذلك بهدف تهريب السلاح وسحبه عن طاولة الحوار وإطالة أمد الحوار، فإن الحزبيين أنفسهم يجيبون بالآتي:
- من الطبيعي أن تنفعل "قوى 14 آذار" من المبادرة، لأنها بذلك تغطي إحراجها وافتقادها عنصر المحاججة أو المبادرة.
- ان مبادرة نصرالله لا تستهدف الطائف، لا بل ان المبادرة تلاقي في مكان ما، الدعوة المتكررة على لسان البطريرك الماروني بشارة الراعي بالدعوة الى عقد اجتماعي جديد، ليس على قاعدة إلغاء الموجود ولا أن ننطلق الى المؤتمر التأسيسي من فراغ، بل ننطلق مما هو موجود لتركيز الأسس التي تحمي الهيكل من السقوط وبمشاركة كل المكونات المجتمعية.
- ان مبادرة نصرالله تلاقي في مكان ما الدعوة الرئاسية الى الحوار الذي هو محطة آنية وضرورية، وغايتها الانتقال بالبلد الى رحاب أوسع وأشمل يمكن من خلالها تلمس طريق إخراج لبنان من أزمته المعقدة والمستعصية، وبديهي هنا افتراض تلقف المبادرة من قبل رئيس الجمهورية ميشال سليمان لوضع الآليات الضرورية لإطلاق المؤتمر التأسيسي.
- ان أي عاقل وموضوعي يدرك أننا أمام لحظة نشهد فيها أعلى مستويات الاستعداد الاسرائيلي الدائم للعدوان والحرب على لبنان والمنطقة، وبالتالي، فإن الوظيفة الاستراتيجية لسلاح المقاومة، هي حماية لبنان، ويعني ذلك، أن المقاومة اليوم في ذروة الاستنفار والجهوزية، وحينما يطرح نصرالله مبادرته، لا يفكر لا بتهريب سلاحه ولا بسحبه عن طاولة حوار أو إدراجه فيها، "لان دور هذا السلاح محسوم وأكبر من كل يتمناه المسكونون بالهواجس وناصبو الفِخاخ والكمائن الذين يحاولون خنق الحوار داخل عنوان السلاح الذي يمكنه أن يشكل ركيزة من ركائز بناء الدولة القوية القادرة العادلة المقاومة".
يختم أحد الحزبيين شرحه بالتهكم على المشككين بمبادرة نصرالله قائلا: "فعليا نحن أمام واقع أن "حزب الله" هو دولة ضمن اللادولة، فإذا أرادوا بناء الدولة، فسنقف في الطليعة، ونحن مستعدون لتحمل أكلاف هذا الخيار بالمعنى الاستراتيجي".