يقرر «الزعران» أن يفتحوا النار ويقصفوا الأحياء ويزرعوا المدينة خوفاً وترهيباً، فيكون لهم ما يريدون. يقررون أن يطلقوا صواريخ على قلب المدينة المكتظة، فيُقتل الناس في منازلهم بصمت وتحترق المباني والسيارات والمحال. يريدون قنصاً فتسقط الجثث أمام أعين الكلّ. يريدون تخويف الناس فتجوب السيارات الشوارع مطلقة النار في الهواء. وعندما يقررون أن يستريحوا، تصمت المدينة ويسهر سكّانها على هناء أحلامهم!
تتحرّك طرابلس اليوم وفق «مزاج» المسلّحين وحسابات من يسلّحهم. القلق كبير والتأفف على كل لسان. لكن الأصوات تختنق داخل المنازل ولا تتعدّى حدودها «نقّاً» متبادلاً خلال صبحية على فنجان قهوة، أو هزّة رأس مكسورة عند إنزال الأبواب الحديدية للمحال تلبية لأوامر رصاص بدأ ينهمر عند الظهيرة.
أبو محمد لم يبع حذاءً واحداً في متجره في السوق القديم منذ شهر ونصف، يزداد وجهه تجهّماً عند وصوله إلى عتبة المنزل فارغ اليدين كل يوم. الحاج منير لا يدري ماذا يفعل بكميات اللبن واللبنة وقوالب الأجبان وديونه التي تتكدس في دكّانه في شارع «لطيفة» في الزاهرية. ميرفت تفتح باب صيدليتها في شارع المئتين «نصّ فتحة» كل يوم جمعة لأنها تعلم أنها ستقفله بعد قليل وتعود الى منزلها «محبطة». خالد يُخرج مجموعة الموسم من المراوح ليعرضها على جانب الطريق العام المؤدي الى دوّار أبو علي، لكنه ما يلبث أن يدخلها على عجل ويهمّ بالرحيل قبل غروب الشمس. عمر مدرّس متعاقد في الجامعة في أبو سمرا لكن صفوفه تؤجّل وتلغى مع كل حدث أمني والمعاش يتناقص شهراً بعد شهر. لا صناديق خضر على أرصفة الأحياء ولا موبيليا معروضة على مداخل منطقة الغرباء ولا متسوّقون في شارع عزمي ولا ضجيج طلّاب في حيّ المدارس في الزاهرية ولا روّاد في المقاهي الصغيرة. قرر الزعران أن يسلبوا المدينة حياتها، فكان لهم ما أرادوه.
قرف وتململ وسخط على «الزعران» وعلى «كل السياسيين»، لأن «الكلّ، الحريري والميقاتي والصفدي لديهم أموال طائلة ولا يكترثون بنا» يقول أبو عمر، صاحب بسطة السكاكر على مدخل السوق القديم. عيون أبو إيلي في سوق الصاغة شاردة طوال الوقت، فهو «لا يدري في ما يفكّر وماذا سيفعل بعائلته وبمحلّه ومهنته التي لم يرث غيرها عن أبيه». «سأسافر إلى الخليج»، حسمت أمل الموظفة في دائرة حكومية أمرها بعد أن احتفل الحيّ بأكمله بنيلها الوظيفة السنة الماضية.
«طلبوا منّا أن نحبّ الحياة في الـ2005. أحببنا الشعار وما زلنا نفتّش عن حياة لم تكتب لنا أصلاً»، تقول أم عزّام وهي تلمّع صورة الرئيس الشهيد رفيق الحريري في ركن صالونها الفسيح.
وعندما تسألهم «لماذا عادت المعارك بين التبانة والجبل؟» يجيبون «متى انتهت أصلاً؟» أو «اسأل المسلّحين هم أنفسهم لا يعرفون لمَ؟». «الأزعر شو عبالو؟ عم يقبض مصرياتو بعد كل معركة»، يتمتم أسعد وهو يقفل باب فبركة النجارة مرّة أخرى مع بدء صوت رشقات الرصاص.
تسكت المدينة بلحظات، تقفل بإحكام على غضبها ولا تنطق بكلمة حقّ. وصل السيف إلى رقاب الطرابلسيين و«الزعرنة» باتت تهدد لقمة عيشهم. لكنّ صمتهم قاتل. متى سينتفضون؟
«طرابلس ليست قندهار. لسنا برابرة. نحن نحبّ الحياة. فلتسقط الحكومة العاجزة. وليطلقوا سراح معتقلينا»، أفرغ هاني وسارا «غضبهما المشترك» على «فايسبوك» ثم عبّرا عن إعجابهما بعبارة وضعها للتو «فايسبوكي» بيروتي مذهبي إلى أقصى الحدود، ثم غيّروا صورة «بروفايلهما» إلى ملصق «القلب عالشمال» ثم... توجّها إلى البحر ليستمتعا بنهار مشمس.
لم ينتبه أحد إلى تعليق ورد بعد دقائق على صفحتيهما موقّع باسم «طرابلسي»، يقول: «وممَّ تشكو قندهار؟».