ولطالما كان لبنان منذ الاستقلال مرآة للمنطقة. على أرضه تحضر كل الصراعات والتناقضات وتنعقد التسويات. تركيبته الداخلية الطائفية المعقدة من جهة، وموقعه الإقليمي المتقدم في جبهة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، من جهة ثانية، يجعلان منه بلداً مفتوحاً على احتمالات واحتمالات.. يصعب معها على من يدير الدفة الداخلية رسم استراتيجيات بعيدة المدى، بقدر ما يكون جهده مركزاً "على القطعة"، أي تسيير واقع الحال.
قبل أربع سنوات، انتخب ميشال سليمان رئيساً. جاء الانتخاب بعد شهور من الفراغ الرئاسي والنيابي. فجأة دار الدولاب دورته، من الميدان، الى السياسة. من الخامس من أيار 2008، الى الخامس والعشرين منه. ميشال سليمان رئيساً بأغلبية أصوات نواب فريقي 8 و14 آذار وبأصوات "الأمم" أولاً والعرب ثانياً.
في خريف العام 2007، وقبل ايام من انتهاء ولاية الرئيس اميل لحود، التقى صحافي لبناني مخضرم برجل الدولة الروسي ايغور ايفانوف، في "مقهى نورا" في لندن. قال ايفانوف للصحافي اللبناني: "من هو ميشال سليمان"؟ أجابه "قائد الجيش اللبناني". رد المسؤول الروسي ضاحكاً: "مبروك لكم سيكون رئيس جمهوريتكم المقبل".
من اليرزة الى بعبدا، مسافة دقائق، ومن 25 ايار 2008 الى 25 ايار 2012، تنطوي اربع سنوات من عمر "العهد السليماني"، مثلما انطوت صفحات كثيرة غيّرت الكثير من المعادلات على صعيد المنطقة والعالم.
أربع سنوات انتهت برز معها واقع داخلي جعل من امكان تحقيق الكثير من الآمال مهمة وطنية صعبة بعدما ثبت ان "الأزمة الوطنية" أعمق من أن تعالج بمهدئات ومسكنات.
لم يوفّر ميشال سليمان فرصة إلا واقتنصها في سبيل تحقيق الأهداف التي حددها في "خطاب القسم"، ولكن مرة جديدة، تبين لسيد العهد أن "اليد الواحدة لا تصفق وحدها"، بل المطلوب اجتماع الارادات الوطنية، وهو أمر مفتقد.
ثبت بعد الخروج السوري من لبنان، وتصدي اللبنانيين لمسؤولية ادارة شؤونهم الداخلية بلا أية ادارة خارجية، للمرة الأولى منذ الاستقلال، ان هذه المهمة "كمن يحفر جبلاً بالابرة"، الا ان المحاولة لم تتوقف، لا بل زادت العزيمة وترسخت أكثر بعد وقوع الأزمة السورية، حيث كان لا بد من اتخاذ قرارات جريئة وعدم تهيب المسؤولية الوطنية، في هذه المرحلة الاقليمية البالغة الصعوبة والتعقيد.
واذا كانت الاهداف التي حددها سليمان لعهده كثيرة ومتنوعة، فانه أخذ على عاتقه أن ينجز ما يـــستطيع وأن يضع القواعد لمن سيأتي بعده، وفي الوقت نفسه، تعامل مع الصعوبات على قاعدة "ما لا يدرك كله.. لا يترك جله". لذلك، يلمـــس المتابعون للأداء الرئاسي جهوزية دائمة لتلقف الفرصة وتحويلها الى حقيقة واقعة.
ومن دون الإسراف في التفاصيل، فإن المقاربة الواقعية لمسيرة الـــسنوات الأربع من "العهد السليماني" تطلق من مستويات ثلاثة، داخلية واقليمية ودولية، ولكل مستوى حيثيته المرافقة وظروفه التي أثّرت على مسار تبلوره ومدى تحقيقه للآمال المعقودة عليه.
على المستوى الداخلي، شكل وما يزال عنوان "الدولة الجامعة والعادلة" اساس التعامل مع "الدواخل" اللبنانية:
1 – لا فئة تدّعي حصرية شعار معين ومهمة رئيس الجمهورية جمع كل الفئات المخلصة لمصلحة لبنان والابتعاد عن الاصطفافات المؤذية.
2 – تكريس نهج الحوار وتثبيته وسيلة تخاطب وحيدة بين مختلف الفئات اللبنانية.
3 – مخاطبة الشباب اللبناني والاعتراف بطاقاته وقدراته.
وبرغم التعثر الإداري والقضائي و"الماكينة السياسية المصابة بالصدأ"، ناهيك عن الوقت الطويل الذي استنفدته عملية تشكيل ثلاث حكومات متتالية حتى الآن، حافظ رئيس الجمهورية على صبره، في إطار توجّه يهدف الى تعويد المسؤولين على اتخاذ القرارات بإمكاناتهم وإرادتهم الذاتية، بدل انتظار الخارج كي يلقنهم القرارات أو يتخذها بالنيابة عنهم.
ولعل احد اهم الانجازات التي تسجل لـ"العهد السليماني" احترام الاستحقاقات الدستورية وإجرائها في مواعيدها، برغم محاولات الاطاحة بها، فضلا عن سعيه المستمر للحفاظ على الاستقرار والسلم الاهلي، برغم بعض العثرات الموضعية، وأخطرها حوادث طرابلس وعكار الأخيرة.
على الصعيد العربي، انطلقت مقاربة سليمان من الآتي:
1 – التأكيد على عروبة لبنان وانتمائه الى محيطه، وبالتالي، لا احد يستطيع سلخه عن محيطه او يدخله في صراع محور ضد آخر. من هنا كانت سياسة النأي بالنفس عن الاحداث في عدد من الدول العربية، بمعنى النأي الايجابي المساعد على بلورة الحلول السلمية بعيدا عن العنف او التدخل الخارجي.
2 – وضع العهد اسس قيام علاقة سليمة وصحية وصحيحة وثابتة. فكان القرار بالتبادل الديبلوماسي وانشاء السفارات وتعيين السفراء، وذلك للمرة الاولى في تاريخ العلاقة الاخوية بين البلدين.
3 – لعب رئيس الجمهورية دور صلة الوصل بين الأخوة العرب المختلفين سياسياً، وخير مثال دوره الشخصي في محاولة تقريب وجهات النظر بين سوريا والسعودية وبين سوريا ومصر وسعيه للحفاظ على المبادرة العربية للسلام في ضوء دعوات البعض للإطاحة بها.
4 ـ كان رئيس الجمهورية سباقاً في الإعلان، ومن على منبر الأمم المتحدة وفي عدد من المحافل الإقليمية والعربية بأن العروبة والاسلام بعيدان عن الارهاب. وفي هذا السياق، تندرج دعوته لإنشاء مرصد عربي – اسلامي لمكافحة الارهاب.
على الصعيد الدولي، تشبث سليمان بقناعة مفادها ان معادلة تحصين استقرار لبنان وحماية أمنه، تتعزز كلما كانت شبكة الامان الدولية والعربية حاضرة. لذلك، ركز ســليمان على الآتي:
1 – اعادة لبنان الى الخارطة الدولية، عبر تكثيف زياراته للدول الاساسية صاحبة القرار وتلك المؤثرة في مسار الاحداث والتطورات العالمية ومشاركته الفاعلة في المؤتمرات والقمم الدولية، وابرز تجليات هذا الحضور عضوية لبنان غير الدائمة في مجلس الامن والتي كانت محط ثناء وإعجاب وتقدير دول العالم، حيث اثبت لبنان قدرة متميزة في ادارته لهذا الموقع.
2 – تشديده ان لبنان ليس بلد الشتيمة لرؤساء الدول الاجنبية ولشعوبها بل هو دولة القيم واحترام القيم ومن مؤسسي العلاقات الدولية بأبعادها المختلفة.
3 – تقديمه للبنان على انه رسالة من ناحيتين:
الاولى، حوار الاديان وهذا ما أكده خلال لقائه البابا بينديكتوس السادس عشر، وفي كلمته أمام مؤتمر حوار الثقافات والاديان في الامم المتحدة.
الثانية، لبنان هو ملتقى الثقافات والحضارات، ومن هنا كانت مطالبته في الامم المتحدة والقمة الفرانكوفونية وقمة الاتحاد من أجل المتوسط بجعل لبنان مركزاً لإدارة حوار الثقافات والحضارات.
4ـ إيلاء اهتمام كبير لعلاقات لبنان الدولية، شرقاً وغرباً من دون التمحور في محور معين، وهذا الأمر قاد الى جعل التفاعل مع الاغتراب اللبناني أولوية مستمرة، ومن هنا كان قيامه بأكثر من جولة أبرزها رحلة اوستراليا، وهي الزيارة الأولى من نوعها لرئيس لبناني الى هذه القارة التي تحتضن أكثر من 350 ألف مغترب لبناني.
أربع سنوات مضت ومن يلتقي رئيس الجمهورية يجده أكثر إصراراً على متابعة كل الملفات التي جهد منذ اعتلائه سدة الرئاسة لتحقيقها، "وفي مقدمها ما يخص المواطن من دون اغفال الثغرات التي برزت خلال الممارسة على صعيد السلطة والتي تحتاج الى تصحيح، ليس انطلاقاً من نزع صلاحية من موقع وإعطائها لآخر، انما من منطلق ان تتناسب الصلاحيات مع حجم المسؤوليات" يقول رئيس الجمهورية.
سليمان لن يغادر توافقيته، ثابت في موقعه. ليس في موقع الخصومة مع أحد. أبوابه مشرّعة لما فيه خير لبنان واللبنانيين، وكأنه انتخب للتوّ رئيساً للجمهورية تاركاً للتاريخ ان يحكم عليه من دون أية أوهام بالتمديد أو بالتجديد.. لا بل أكثر اصراراً على احترام الاستحقاقات وفي مقدمها انتخابات العام 2013 النيابية وانتخابات العام 2014 الرئاسية...
لإيغور ايفانوف ولغيره أن يهمســوا من هو رئيس لبنان المقبل؟
(في الجزء الثاني: ماذا يقول الخصوم عن حصيلة العهد؟)