سبق صحافي بلا شكّ، لكنّه أكثر من ذلك في إطار واقع مشفّر، مزروع بالألغام: الرأي العام قلق على مصير مواطنين لبنانيين اختطفهم قطّاع طرق في الأراضي السوريّة، على درب عودتهم من زيارة دينيّة إلى إيران. ما بال «ثوّار» آخر زمن، وهم نسخة كاريكاتوريّة مضخّمة عن «طاغوتهم»، منشغلين بمجموعة من المدنيين الأبرياء؟ هؤلاء يعدوننا بسوريا جديدة حقّاً؟ الاشاعات البشعة تثير الخوف في نفوس أهلهم وأحبابهم. وتثير القلق في الوجدان اللبناني والعربي المتوجّس من حدوث الأسوأ، إذ يعرف أن بضاعة الاستعمار الوحيدة لإخضاع شعوب المنطقة هي سرطان «الفتنة المذهبيّة»، واغراق البندقيّة التي ركّعت إسرائيل في مستنقع الحروب الأهليّة. علماً أن العصابات التي تسلّحها اليوم في سوريا قوى «الديموقراطيّة» مجرّد أداة في خدمة أسيادها، وأبعد ما تكون عن حركة العصيان الطالع من رحم الغضب الشعبي.
فجأة، تطلّ «الجزيرة» ومعها الخبر اليقين. المخطوفون بخير، وهم ينعمون بـ «ضيافة» خاطفيهم. ها هي الكاميرا تتنقّل بين وجوه مقطّبة لرجال متحلّقين في صالون مرتجل. يبدو عليهم «الانشراح» و«الهدوء» طبعاً. لا، ليست كاميرا «الجزيرة» تماماً. من أيّام بن لادن بنَت المحطّة الثوريّة القطريّة مجدها كساعي بريد، على بثّ ما يصلها من تسجيلات، صوّرها «آخرون» في مكان ما من تورا بورا. إنّها كاميرا أحد «مراسليها» غير المباشرين إذاً. لقد اخترعت «الجزيرة» نوعاً جديداً من الصحافة: صنّاع الحدث وأبطاله هم أيضاً ناقلوه عبر الأثير. بما إنّها صوت الربيع العربي في كل مكان، ومن الطبيعي أن يكون كل مواطن عربي مراسلها. لديها بالتالي مراسلون في صفوف «الخاطفين» (عفواً الثوار المضيافين) في مكان ما من الأراضي السوريّة.
في هذه «الخبطة الصحافيّة»، يتحدّث الرهائن إلى «مضيفهم»، ومن خلاله إلى أهلهم والرأي العام. لكنّنا لا نسمع شيئاً. المحطّة المعروفة بمناقبيّتها وأخلاقيّاتها، حجبت الصوت (عادت «الجزيرة مباشر» وبثت الشريط كاملاً إضافة إلى محطات وقنوات أخرى). لقد فعلت ذلك «التزاماً منها بميثاق الشرف المهني الذي اختطّته لنفسها». هكذا بكلّ جديّة! وتكرّمت بتلخيص الموقف باسم «جميع ثوّار سوريا» الذين سيسلّمون ضوفهم «بعد النظر في قضيّتهم أمام البرلمان الديموقراطي الجديد». قريباً يعني! .
في فترة ليست بالبعيدة، راحت «روتانا» تغدق التمويل على مهرجانات عربيّة عريقة، فجرّتها إلى الاسفاف، وحوّلت المسارح والمدارج إلى مجرّد استوديوهات يملؤها جمهور ـــ كومبارس، لتصوير حفلات نجومها هي… وملء ساعات بثّها هي. واليوم ليست «الجزيرة» ببعيدة عن هذه الفلسفة. لقد حوّلت الجرح العربي الذي يختصره صالون ضيافة يقبع فيه 11 مواطناً لبنانيّاً بريئاً في انتظار قيام «برلمان قطّاع الطرق الديموقراطي»، إلى استوديو يشبه تلفزيون الواقع، لإنتاج هذه المهزلة الجارحة. لولا التلفزيون القطري لما كانت هذه التمثيليّة السمجة.
«الجزيرة» إذاً، بشكل مباشر أو غير مباشر، إمبريزاريو الخاطفين وشريكهم. المحطّة الثوريّة متواطئة معهم، مموّلة لاستعراضهم البشع، ومسؤولة أخلاقيّاً عن مصير المخطوفين اللبنانيين الذين تعرف مكانهم وأسماء خاطفيهم.