لم يغيّر الجيش من قواعد انتشاره في منطقة الشمال، بعدما بدأ خطة أمنية منذ أن اندلعت حوادث طرابلس وعكار. وتالياً فإنه لم يعمد إلى تقليل عديده أو عدده ولا حتى بدّل أفواجه. كل ما فعله بعد حادثة الكويخات أنه خفف بعض حركة عناصره لامتصاص النقمة التي وقعت، وبدّل سريتين من فوج المجوقل ليس إلا، بناءً على طلب قائد الفوج. وما عدا ذلك كل الأمور تحت السيطرة، والجيش يتعامل بروية مع المستجدات كما تعاطى مع الحملات التي تعرض لها. وهو حاول استيعابها باتصالات سياسية ولقاءات لافتة قام بها قائد الجيش العماد جان قهوجي وأخرى قام بها عدد من القيادات السياسية إلى مقر وزارة الدفاع.
حالياً يعدّ الجيش خطة لمعالجة الأوضاع المتدهورة شمالاً، لكنه يعطي في الوقت نفسه المجال واسعاً للمعالجة السياسية حتى تأخذ مداها، لا سيما أن رئيس الوزراء أخذ على عاتقه القيام باتصالات سياسية مع جميع الاطراف الموجودين على الأرض، ولا سيما في طرابلس، وتحقيق مصالحات شاملة. ومشكلة طرابلس متعددة الوجوه، وهي نشأت بفعل دعم الأطراف المسلحين على الأرض، وكل طرف يتهم خصمه السياسي بتسليح الناس وتوزيع الذخائر عليهم. وإلا فمن أين لجميع هؤلاء، وجلّهم من الفقراء، الإتيان بكميات من الذخيرة والأسلحة؟
من هنا فإن أي خطة يستعد لها الجيش تتراوح بين حدّين: خطة تتكيّف مع المعطيات على الأرض والاتصالات السياسية بحيث تواكب التهدئة، وخطة «مكلفة» تكون بمثابة «آخر الدواء الكي». إلا أن الجيش يتفادى حتى الساعة اللجوء إلى هذا الدواء، لأن الكيّ مكلف جداً، وهو ما يسعى الى تجنّبه في منطقة سكنية مكتظة، و«حرام» اللجوء اليه، في حال لم يقتنع جميع المعنيين بأن الجيش حاسم في قراره الرد بقوة «تدميرية» على مصادر النيران من أي جهة أتت، «وهذا ما يحصل فعلياً». لكن الاعتقاد العسكري أن الأوضاع في طرابلس الآن أفضل مما كانت عليه سابقاً، لا بل إنها تحسنت، ولذا فإن الخطة العسكرية البديلة جاهزة، وهي بذلك تصبح رهناً بالتطورات ومحكومة بنجاح الاتصالات السياسية، بعدما بدا أن أكثرية الأفرقاء مقتنعون بأن استمرار وضع الأمن في طرابلس على حاله سيجعل المدينة ميتة، وهذا لا يصبّ في مصلحة أحد منهم.
أما في عكار، فالوضع مختلف، وقد بات مرتبطاً بالوضع السوري الى حدّ كبير، وبتطورات الأحداث على الحدود. والمخاوف المذهبية قد تصبح حقيقة إذا لم تعالج، مع العلم بأن عمليات الخطف المتبادلة لم تنشأ مذهبياً، بل بدأت بخلافات محلية وفي إطار عمليات التهريب ومحاولة البعض تبييض صفحته، إلا أن انفجارها لاحقاً مذهبياً هو أكثر ما يثير قلق الأمنيين والعسكريين. صحيح أن ما حصل في طرابلس من حرق محال للعلويين من أبناء المدينة بقي محدوداً، لكنه فعل فعله في وسط يعتبر تاريخاً من أبناء المنطقة، لكن حتى الساعة لم تسجل بعد حالات فرز مناطقي ومذهبي بالمعنى الحرفي. لكن المخاوف تكبر من أن يكون «الحراك المذهبي» عنوان الأيام الآتية إذا لم تتمكن القوى السياسية من لجم مناصريها.
والى جانب هذه المخاوف، ثمة هواجس سياسية من أن تدفع نيّات النظام السوري بتكثيف عملياته العسكرية ضد معارضيه في المناطق المتاخمة للبنان، شمالاً وبقاعاً، المسلحين المعارضين إلى اللجوء إلى لبنان، مع وجود بقعتين أمنيتين خطرتين، ما يضع لبنان سلطة سياسية أمام تحد كبير. فهل تبقى على نأيها بالنفس عن الحدث السوري، أم ستضطر وفقاً للمعاهدات بين الدولتين إلى تسليم الفارين المعارضين أم تمتنع تماشياً مع الرغبة الأميركية والدولية؟ مع العلم بأن النائب وليد جنبلاط كان أثار هذا الموضوع في جلسات الحوار، داعياً الى عدم تسليم الفارين إذا كانوا غير مسلحين.
سياسياً، عادت الاتصالات السياسية لتتمحور مرة جديدة حول قيادة الجيش. وبرزت في شكل لافت سلسلة الزيارات التي قام بها إلى قيادة الجيش كل من رئيس الجمهورية ميشال سليمان ورئيس الوزراء نجيب ميقاتي وغيرهما من النواب والوزراء. وقد بدا هؤلاء واعين لمدى الخطورة التي تعرض لها الجيش في الأيام الأخيرة التي ارتفعت فيها لهجة البعض مستهدفة إياه. وثمة فريق من زوار اليرزة يحاول استكشاف حقيقة الأوضاع وما يجري بدقة في الشمال والبقاع، ويطرح أسئلة محددة عمّا يجري على الأرض. ووسط كل ذلك يبدي أكثر من طرف دعمه وتمسّكه بجيش قوي ومتماسك، ومنهم النائب وليد جنبلاط الذي بدا أكثر من حريص على منع استهداف الجيش وتحذيره إياه من فخاخ تنصب له، مع العلم بأن جنبلاط يعيش بجدية هاجس الأمن من الشمال إلى الجبل، وهو يبدي خشيته المتصاعدة من انفجار الخلاف المذهبي، ولا سيما أن بعض الحوادث الأخيرة على تخوم الجبل الساحلي لم تثر لديه كثير ارتياح. وهو مثله مثل أكثر من قيادي زار اليرزة، أبدى قلقاً جدياً من المرحلة الآتية، إلى حد أن أبرز المسؤولين المعنيين اختصر ما يجري بالقول «إن الوضع الآتي صعب، وقد يكون أصعب ممّا نتصور».