لم تكن صلاته الأولى
كان واقفاً فوق برميل مياه مسطّح وصغير الحجم، يترنح ذات اليمين وذات الشمال، كما تتحرّك عقارب الساعة. أطلق ساعديه على اتساعهما مثل عصفور، أرخى الجسد، ولكز البرميل بقدميه، فزفر الهواء الأخير، وانكمش على نفسه بلا جناحين.
مات العمّ محمود اسكندر
حدث ذلك قبل نحو ثلاثة عشر يوماً. آنذاك، لم تحسم التحقيقات الأمنية فرضية الانتحار. أما اليوم، فأضحت الحقيقة واضحة: قتل نفسه «بملك إرادته»، وفق ما كتب في الرسالة التي عُثر عليها إلى جانب جثته، مكتوبة على ورقة إفادة الضمان الاجتماعي.
كتب في الرسالة: «أطلب من زوجتي المظلومة، وابنتي بتول، وعائلتي وآل اسكندر، أن يسامحوني. إن سبب موتي هو قصة اللوحة العمومية المشؤومة».
قبل القصة المشؤومة
للعمّ محمود ستة أبناء.
قبل نحو 15 عاماً، كان يملك بسطة خضار في حارة حريك، وشاحنة صغيرة. لكن بعد مرور نحو سبع سنوات من عمل دؤوب، لا يقلّ عن 17 ساعة عمل يومياً، صادرت البلدية المعنية بسطة الخضار.
أذعن لسوء طالعه، فانتقل إلى العمل على الشاحنة، متنقلاً من منطقة إلى منطقة، بغية بيع ما تيسّر من الخضار. وفي تلك الأثناء، استطاع تثبيت بسطة خضار في منطقة الجاموس في الضاحية، بالقرب من منزله الواقع في مبنى قديم، وسط مجمع سكني شبه عشوائي.
ثماني سنوات والعمّ يعتاش وعائلته من البسطة. كان مرتاحاً إلى حد ما، خصوصاً أن شقيقه علي سبق وأهداه لوحة عمومية، كي ينضوي هو وعائلته في صندوق الضمان الاجتماعي.
مرّت الأيام والشهور والأعوام، والعمّ محمود منغمس في روتين عمل يومي لا يتذمر منه، بالرغم من المتاعب. لكن قبل عام ونصف، وفيما كانت ابنته بتول، وهي فتاة عشرينية ودودة، تعيش حياتها الصحية بلا أي عِلل، حدثت الصدمة الأولى.
أصيبت الفتاة بعارض صحي، بدا مجهولاً في أول الأمر، ثم تبيّن، تباعاً، أن إحدى كليتيها قد شاخت قبل أوانها. ذبلت الفتاة أمام أبيها، وذاب هو في عواطفه الأبوية.
مذاك، تحوّل العمّ محمود إلى رجل شبه انطوائي، حزين، صموت، ولم تفلح محاولاته في التبرّع بإحدى كليتيه للابنة، بسبب الفارق العمري بينهما. لكن في الوقت ذاته، كان أبو محمد ممتناً لشيء مصنوع من حديد: لوحة عمومية حمراء اللون.
كانت هذه اللوحة توفّر للعائلة ضماناً اجتماعياً، استفادت منه في التغطية الصحية للابنة. وكانت اللوحة الحمراء ذاتها، منذ أعوام وحتى اللحظات الأخيرة قبل موت العمّ، تدغدغ أحلام العائلة البسيطة، في انتظار موعد التعويض: كانت أحلاماً صغيرة، لكنها أحلام تُنسج، ومعها تُنسج الوعود، ويحلّ الانتظار.
ضربات متتالية
عندما تدهورت الحال الصحية لبتول، تحتّم عليها إجراء غسيل كلى بين اليوم والآخر، فتعود إلى المنزل ذابلة، متعبة. ازداد خوف الأب على ابنته، وصار يذرف الدموع في صلواته، كما لو أنه طفلٌ.
اعتكف عن الأصدقاء، منعزلاً في المنزل بعد عودته من بسطة الخضار. وما إن يعود، كان يسأل زوجته: «أين بتول؟»، فيرقد إلى جانبها. همساً، كان يعتذر منها.. عن مرضٍ أصابها بغتةً.
بعد مرور نحو عام من مرض الابنة، وتحديداً قبل سبعة أشهر من يومنا هذا، تسلّلت إلى أبي محمد الصدمة الثانية: صادرت البلدية المعنية بسطة الخضار في الجاموس، والتي كانت مصدر رزق العائلة الأساس.
لمّا اشتدت وطأة همومه وأحزانه، أصيب بجلطة في إحدى قدميه، فمكث في المستشفى نحو 20 يوماً. الأب والابنة عليلان، ومصدر الرزق استحال هباءً منثوراً.
مع ذلك، كان العمّ محمود يجهّز نفسه للوقوف والمضي قدماً، في حياة ربما بدت له كما لو أنها تدبّ على قدمين، تلاحقه بضربات من قبضتين حديديتين.
وفيما كان يتجهّز للوقوف، مستغرقاً في صمته مذهولاً، أفيد بخبر منسيّ، كان بمثابة الضربة القاضية: اللوحة الحمراء ستُسحب منه، بما أنه بلغ الرابعة والستين من العمر. حدث ذلك في الخامس من أيار الماضي.
بمرارة يصعب تفســيرها في كلــمات مكتوبة، تلقى أبو محــمد نبأ تخــلّي الضمان الاجتماعي عنه وعــن عائلته، وبالتـــالي رفع التغطية الصحية عن رؤوس العائلة. لكن العــمّ محمود نهض من فراش المرض، بحــثاً عن أحلام التعويض المالي، بقبضتين حديديتين.
بلا أي إنذار مسبق، بدا العمّ محمود كما لو أنه استيقظ من كبوته، فغدت تفاصيل التحدّي على الآلام، أقوى من تخيّلات زائفة يتحمس لها المرء في أول الأمر. أدرك أن مرضه لن يسمح له العمل، وعندما يؤذن له بذلك، فإن مصدر رزقه الأساس قد اندثر، وبينهما ابنة ذابلة.
وسط ذلك، شرع في متابعة الإجراءات القانونية، كي يعيد اللوحة العمومية إلى شقيقه علي، ثم يستحق التعويض المالي، الحلم الصغير. لكن حتى هذا القبس، تحوّل إلى ظلام: تبيّن أن إجراءات تصفية اللوحة معقدة، وشبه مستحيلة في المدى المنظور، لأسباب قانونية تعود إلى سنوات عجاف، ولم يكن العمّ محمود ملمّاً في تفاصيلها.
ساعياًً إلى معالجة الأمر، توجه إلى الهرمل، مسقط رأسه، لتحصيل الأوراق والمستندات المطلوبة. مكث في منزل قريبه عدنان اسكندر. يلوّح عدنان بيديه قائلاً: «لقد عرضت عليه مالاً، لكنه رفض. لديه عزّة نفس غريبة!».
عندما نهض أبو محمد لتوديع عدنان، عانقه بحرارة «كما لو أنه مسافر، ثم قبّلني كما لو أنني سأموت»، يقول عــدنان، متذكراً أنه قال لزوجته بنبرة صارمة: «الله يسترنا من قبلات محمود».
الليلة الأخيرة
كانت الشمس تلملم أذيالها خلف الغروب، عندما قصد أبو محمد منزل خاله في الهرمل، ثم منزل والده، حتى وصل منزل شقيقه. ملامح الحزن كانت مرسومة على وجهه، بالرغم من أنه حاول طردها عبثاً.
كان يوماً طويلاً قبل حلول الغروب، تنقل خلاله أبو محـــمد من بعلبك إلى الهرمل، بغية إنجاز مــعاملات اللوحة الرسمية، التي كانـــت صعوبة إتمام المعاملات حينها تنذره بأفق مشؤوم.
مع ذلك، سهر العمّ في منزل شقيقه حتى الثانية عشرة والنصف ليلاً. ولمّا نهض للمغادرة، أصروا عليه بأن ينام عندهم، لكنه رفض، وطلب من ابن أخيه أن يقلّه إلى منزله. «عندما وصلنا، بحث عن المسجلة الصوتية، ثم ثبتها على آيات قرآنية. بعد ذلك، طلب منيّ المغادرة، فغادرت»، يتذكر ابن شقيق العمّ محمود.
في الصباح، قصد علي منزل شقيقه، إلا أن الباب الرئيس كان موصداً. انتظر الرجل أن يفتح أبو محمد الباب، لكن بلا جدوى. وفيما كان متوجهاً إلى الباب الثاني، شاهد، من النافذة المواربة، شقيقه مشنوقاً.
اليوم، في المنزل المفجوع في الجاموس، تستكمل عائلة العمّ محمود حياتها، بلا الركن الأساس للمنزل. ثمة صورة للأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، في الصالون ذي الأثاث المتواضع.
الزوجة المتشحة بالسواد، لم تستيقظ من صدمتها بعد: «هذا آخر حدث توقعته في الحياة، لأنه رجل مؤمن»، تقول، وتبكي.
رحل العمّ محمود بلا ضوضاء. هو لم يحرق جسده كما فعل محمد البوعزيزي في تونس، عندما حاولت الشرطة مصادرة بسطة الخضار التي يملكها. العمّ يعرف أن أبناء وطنه لن ينتفضوا لخبر موته، مثل ما ثار أبناء تونس لجسد لم يروا في احتراقه انتحاراً.
العمّ محمود يعرف أن وطنه مصنوع من خدر، من أمراء طوائف يتشبثون في كراسي مثبتة بأوتاد فولاذية، مغروسة في أعناق الفقراء. أوتاد يزداد رسوخها كلما خاف أحد ما من طائفة الآخر، فيلوذ بحماية الأمير - الزعيم، ويشتد الوتد.
رحل العمّ محمود إلى جانب فراس حيدر، ونبيل زغيب. في رحيلهم، ربما نتذكر، ولو بعد حين، أننا نستطيع أن نريد، كما أرادت الشعوب، ذات يوم.
جعفر العطار