قبل سنوات، كانت لدى رضا قناعة تامة بأن حزب الله، في الضاحية تحديداً، قادر على كل شيء. هذه «المسلّمة» تغيرت لدى الشاب المنتسب الى صفوف التعبئة الجهادية في الحزب، عندما تعرّض، في الضاحية نفسها، لاعتداء على أيدي شبّان ينتمون الى عائلة ذائعة الصيت في إثارة المشاكل. توجّه إلى مركز «الشعبة» التي يتبع لها مستنجداً بـ«الأخوة» لرد اعتباره. لكن مسؤوله فاجأه عندما دعاه إلى التعقل وعدم الانفعال، لأن «التصادم مع أفراد هذه العائلة يعني، بالمفهوم العشائري، تصادماً مع العائلة برمتها، وضرر ذلك على الحزب ربما يوازي ضرر الحرب مع الصهاينة».
بعد سنوات على الحادثة، لا يزال رضا، بين حين وآخر، يصادف بعض الذين اعتدوا عليه. بات هؤلاء أكثر «خبرة». رأى أحدهم، أخيراً، يعتدي بالضرب على سائق «فان» مسن، في وضح النهار، عند تقاطع الكفاءات ــــ جادة الشهيد هادي نصر الله. تحرّى عن السبب، فعلم أن السائق يتمنّع عن دفع «خوّة» للمعتدين، لقاء «سماحهم له بالعمل على الخط»!
يبدو مسؤولو حزب الله في الضاحية كـ«بالع الموسى». هم يدركون أن من أهم عوامل قوة المقاومة الاحتضان الشعبي لها في بيئتها. لكن المشكلة أن بعض من يخرجون من هذه البيئة يسيئون اليها والى المقاومة نفسها من دون ان يجدوا في مواجهتهم لا دولة، ولا «دولة داخل الدولة». والنتيجة: اشتباكات مسلحة شبه يومية، وخوّات تُفرض على التجار، وزعران لا يجدون من يقف لهم بالمرصاد. وكل ذلك بات «يأكل» من رصيد المقاومة.
تصعب المزايدة على رضا في الحرص على المقاومة، أو على بيئة الضاحية التي «خرّجت مئات الشهداء وآلاف المقاومين». لكنه، في المقابل، يجد أن الاستمرار في السكوت على هذه الأمور بات قنبلة موقوتة، «في حال انفجارها، ستكون المقاومة وبيئتها أول المتضررين».
في بعض أحياء الضاحية الجنوبية، هناك اليوم «مافيات» محلية «متخصصة» في كل شيء: مولّدات الكهرباء، اشتراكات «الساتالايت»، توزيع المياه، خطوط «الفانات»... وغيرها. «خوّات» تجبى علناً من أصحاب المحال التجارية وسائقي الفانات وغيرها من الأعمال. تقول هبة، التي انتقلت إلى الضاحية قبل نحو 3 سنوات، إن شبّاناً في منطقة الليلكي، يفرضون أتاوات على أصحاب صهاريج المياه مقابل السماح لهم بالعمل. ويتحدث توفيق، الذي يقيم في الضاحية منذ أكثر من 30 عاماً، عن فرض شبّان من عائلة كبيرة، على بعض أصحاب المولدات الكهربائية، تزويدهم اشتراكات مجانية، أو تسديد مبالغ شهرية لهم لقاء «تأمين الحماية»! والأمر نفسه ينسحب على اشتراكات الإنترنت والساتالايت.
هذه الظاهرة كانت تقتصر، إلى ما قبل سنوات، على الأحياء الضيقة. إلا أنها امتدت، أخيراً، إلى أحياء رئيسية، مثل أوتوستراد السيد هادي والكفاءات والرويس والليلكي والشياح وحي الجامعة اللبنانية، إضافة إلى المتفرعات الرئيسية لحي السلم.
أين الدرك؟ أين القوى الأمنية؟ أين الدولة؟ أين حزب الله؟ أين حركة أمل؟ أين أي أحد... أسئلة يرددها كثيرون من أهالي الضاحية هذه الأيام. ليست الخوّات هي الأذى الوحيد الذي يتعرضون له على يد الخارجين على القانون، لكنها العنوان الأبرز الذي بات ينذر بانهيار الأمن الاجتماعي، في منطقة يقارب عدد قاطنيها المليون نسمة.
«فاجعة» هي أقل ما يمكن أن توصف به إجابة مسؤول أمني رفيع، رداً على سؤال عن سبب «استقالة» قوى الأمن عن القيام بمهماتها في هذه المنطقة. يقول إن «القوى الأمنية بعد انفجار وقع في الضاحية قبل سنوات، مُنعت من معاينة المكان، وهذا ما دفعنا إلى سحب يدنا من الخطة الأمنية التي كنا قد وضعناها للمنطقة. لاحقاً، عدنا للعمل بها، إلى أن حصل انفجار الرويس، فمنعنا من الدخول أيضاً، ومذذاك قررنا وقف العمل بالخطة الأمنية نهائياً». المسؤول الأمني اتهم حزب الله، صراحة، بمنع قوى الأمن من العمل في الضاحية، فيما أعلن الحزب، وعلى لسان قيادته، مراراً رغبته، بل حاجته، إلى دخول القوى الأمنية لتوقيف المخلين بالأمن. وهو ما شدد عليه الأمين العام للحزب، السيد حسن نصر الله، نهاية العام 2009 في معرض دعوته الدولة إلى التشدد في مكافحة المخدرات في الضاحية.
المفارقة أن مسؤولاً أمنياً آخر ينفي ما يقوله المسؤول الأعلى، إذ يشير إلى «تنسيق تام مع حزب الله على صعيد توقيف المخلين بالأمن، ولم نمنع مرّة من القيام بواجبنا». فيما أشاد وزير الداخلية مروان شربل، الذي زار الضاحية قبل أشهر، بالتعاون القائم مع الأحزاب والفاعليات الشعبية في المنطقة.
وجهة نظر حزب الله في هذا الموضوع، يوضحها النائب بلال فرحات، إذ يقول: «غير صحيح أن الأجهزة الأمنية ممنوعة من الدخول الى الضاحية. ملينا هذه المعزوفة، ومن لديه شك فليسأل وزير الداخلية». ويشير نائب الغبيري الى أنه زار، مع زميله النائب علي عمار وعدد من رؤساء البلديات في الضاحية، وزير الداخلية أخيراً، لمطالبته بـ«زيادة عديد قوى الأمن الداخلي في الضاحية، إضافة إلى زيادة عدد الفصائل والمخافر». ويؤكد فرحات أن أمن الضاحية والحفاظ على النظام فيها من الأمور التي يوليها حزب الله أهمية قصوى، مذكّراً بحملة «النظام من الإيمان» التي اطلقها الحزب العام الماضي، والتي لا تحتاج إلى كثير من التدقيق لملاحظة أن مآلها كان الفشل الذريع، وأن المسألة، ربما، تحتاج إلى ما هو أبعد من مجرد حملة. وفي هذا الإطار، لفت أحد المسؤولين الحزبيين في الضاحية الى أن حزب الله «أنشأ أخيراً خلية أزمة، بهدف وضع حد لظاهرة الخوات والتجاوزات، وعمم أرقام هواتف مسؤولي الشُعب في المناطق على أصحاب المحال والمتضررين للتواصل معهم في حال تكرر الاعتداء».
يُذكر أن لدى قوى الأمن الداخلي سرية خاصة للضاحية، مؤلفة من 5 مخافر. أحد المسؤولين في السرية يتحدث عن «نقص العديد»، وهي «المعزوفة» الأبدية لكل تقصير أمني في أي مكان في لبنان. ويبرر المسؤول عجز القوى الأمنية عن تغطية كل الأحداث التي تحصل في الضاحية، إضافة إلى العجز عن توقيف المخالفين، بأن ثمة قاعدة عالمية أمنية، وهي أن كل 1000 مواطن، في الأوضاع الأمنية الهادئة، يحتاجون إلى 7 رجال شرطة، وفي حالات الطوارئ يرتفع العدد بحسب الحاجة. وفقاً لهذه المعادلة، المعتمدة في لبنان، نظرياً، فإن الضاحية تحتاج إلى ما لا يقل عن 700 شرطي، فيما لا يوجد لدى سرية الضاحية سوى 200 رجل أمن. ويتبع لهذه السرية 100 شرطي سير، فيما العدد لا يفترض أن يقل عن 200، نظراً لكثافة حركة السير في المنطقة. أما رجال الأمن العاملون في الطوارئ، والذين يتدخلون عادة في المهات الصعبة، فعددهم حالياً 6 عناصر يمكن «بلعهم» في أي مشكل روتيني.
ثمّة مشكلة أخرى تواجهها السرية، وهي أن أغلب عناصرها من العائلات المقيمة في الضاحية، وقسم كبير منهم ينتمي إلى عشائر بقاعية. يلفت مسؤول أمني إلى وقوع مشكلة، قبل أيام، عندما توجهت دورية لفض اشكال مسلح، ليتبين أن لأحد أطراف الإشكال «ثأراً» مع عائلة رئيس الدورية، ما دفع الأخير إلى عدم اتمام مهمته «لكي لا تكبر القضية ويصبح هناك دم جديد بين العائلتين». هذا الواقع تعلم به قيادة قوى الأمن، وتبرره بـ«عدم رغبة رجال الأمن، الذي ينتمون إلى خارج بيئة الضاحية، بالعمل هناك» هكذا، يعلم المسؤولون أين يكمن الداء، فيداوونه «بالتي كانت هي الداءُ»... وتبريرهم دائماً وأبداً: «هذا هو الواقع». مسؤول أمني خبر الضاحية لسنوات طويلة، وما زال يعمل فيها، لا يجد حلاً لظاهرة فرض الخوات سوى بتدخل استخبارات الجيش، التي «تعلم اسماء الناشطين ورؤوس العصابات، ويمكن من خلال 4 إلى 5 خبطات، يوقف في كل مرة 15 منهم بطريقة أمنية، أن يؤدي إلى لجم الباقين».
رئيس اتحاد بلديات الضاحية، محمد الخنسا، أكد أن البلديات، بالتنسيق مع القوى الأمنية، والأحزاب والفاعليات، تجهد لـ«الحد من ظاهرة الخوات الفاسدة والمفسدة لمجتمعنا»، متمنياً على «الشرطة القضائية تحديداً، برجال التحري لديها، تحديد رؤوس تلك العصابات وتوقيفها دون أي تردد». وأبدى الخنسا استياء من الحال التي وصلت اليها الأمور، إذ «ان عائلاتنا وأهلنا في الضاحية هم من ابناء المقاومة ولهم سجل حافل بالتضحية، ويستحقون كل خير، ولهذا لا يجوز أن يصبح أسلوب عيشهم على هذا النحو، وأن يتركوا فريسة لدى الزعران والفاسدين».
بعد 6 سنوات على حرب تموز، عادت الضاحية أجمل مما كانت عمرانياً. لكن ثمّة من يهمس في شوارعها وأزقتها، التي لا تكاد تخلو من صورة شهيد، أن على المقاومة، التي رفعت رأس الضاحية ولبنان، أن تبادر إلى «اجتراح معجزة ما لتثبيت الأمن في هذه المنطقة، والحفاظ على أمنها الاجتماعي، مهما كلّف الأمر، حتى ولو استقالت الدولة من مسؤوليتها تماماً».
4 جرحى في اشتباك في حي المقداد
بعد دقائق على الاشتباكات بالأسلحة الرشاشة، التي شهدتها منطقة الرويس قبل 10 أيام، لأسباب قيل إنها عائلية، خرج صاحب دكان «سمانة» هناك صارخاً بالمحتشدين: «معقول ما عاد حدا هون يستعمل إيديه بالمشاكل! صرنا بأسخف مشكل نستعمل السلاح والرصاص؟ صار الواحد بموت كرمال صفّة سيارة!». لم يبدُ على وجوه أغلب الحاضرين تأثر. ليس لـ«صوت العقل» تأثير كبير في مثل تلك الحوادث. يوم أمس شهدت منطقة الغبيري ـــــ المشرفية اشتباكات مسلحة أيضاً. وبحسب مسؤول أمني، أدّت الاشتباكات التي اندلعت بسبب مشكلة قديمة بين أشخاص من آل المقداد وآخرين من آل كركي إلى إصابة 4 أشخاص بجروح نقلوا جميعهم إلى المستشفيات، أحدهم في حال حرجة. ومن بين المصابين امرأة من آل فرحات أصيبت على شرفة منزلها، وطفل صودف مروره في الشارع. إلا أن بياناً صدر عن آل المقداد أكد أن لا علاقة للعائلة بالإشكال الذي حصل في حي المقداد، مشيراً إلى أن «خلافاً وقع بين شقيقين من آل غصين وأشخاص من آل كركي». وأشار إلى أن «آل المقداد أجروا اتصالات بقيادة الجيش، وطلبوا مغادرة آل غصين الحي المذكور اتّقاءً للمشاكل التي يفتعلونها باستمرار».