«السفير» كانت بمحاذاة الاشتباكات، التي اندلعت في سياق قطع مداخل بيروت الأساسية، إثر توقيف و.ع.، الذي شارك مع أربعة أشخاص آخرين في إضرام النيران، عند مدخل مبنى قناة «الجديد» ليل أمس الأول، احتجاجاً على استضافة القناة إمام «مسجد بلال بن رباح» أحمد الأسير.
كانت الدوريات المعزّزة للجيش تعمل على فتح الطريق، في الشارع الفاصل بين بشارة الخوري وساحة الشهداء، عندما تسلل شاب عشريني ملثّم من خلف جدار أحد المحال عند مدخل الخندق الغميق، ثم رمى قنبلة «مولوتوف» على الدورية، وعاد أدراجه مهرولاً.
ساد هرج ومرج بين أفراد الدورية لبرهة، قبل أن تستكمل طريقها بمحاذاة الشارع. إلا أن الشبان أمطروها بالحجارة والقنابل الحارقة، فانسحبت إلى الخلف انسحاباً تكتيكياً. في تلك الأثناء، خيّل إلى الشبان بأن الجيش يتحضّر للانسحاب الكامل، فخرج بعضهم إلى الشارع.
وما إن بان هؤلاء، حتى بدأ الجيش إطلاق الرصاص المطاطي، فردّوا عليه برمي القنابل الحارقة والعصي والحجارة، ثم عادوا إلى وكرهم بسرعة. كان الشارع الرئيس، من جهة الإياب، أشبه بساحة معركة حقيقية، فيما كانت جهة الذهاب، بالقرب من «فلافل صهيون»، ممراً لبعض السيارات المجازفة.
بعد عمليات كرّ وفرّ، ورمي قنابل حارقة وإطلاق رصاص مطّاطي، وصراخ هستيري، فصمت مطبق ثم صراخ، انسحب الجيش إلى الوراء، واستقرّ قبالة «فلافل صهيون» بدوريات معززة. اختفى العسكر من شارع المعركة.
«هل تندلع مجزرة؟»، سأل شاب في قوى الأمن الداخلي، كان يرتدي ثياباً مدنية، ويتنقل على دراجة نارية.
بدا للحشود المدنية، المتمركزة في الشارع كمحطة انتظار إجبارية، أن الجيش يتجهز للالتفاف من الجهة المواربة، كي يقتحم وكر الشبّان المسلّحين. إلا أن قرار الجيش كان واضحاً: «لن نريق الدماء». تقدّمت الدوريات في اتجاه طريق الشام، ثم من هناك إلى بشارة الخوري.
صحافة
من الطابق العلوي لمقهى شهير، وفيما بدا أن المعركة انتهت، نزل ثلاثة شبان أجانب، تدلّ وجوههم على أنهم من إحدى الدول الاسكندينافية. وقفوا أمام مدخل المقهى بعيون مذهولة، فتقدّم رجل أربعيني ملتحٍ نحوهم، وقال باللغة الانكليزية: «لا تخافوا، سنتولى توصيلكم». انتظر قليلاً، ثم أشار بيده إلى سيارة أجرة كانت تسير مسرعة.
عاد سائق السيارة أدراجه متوجساً. لكن الرجل الأربعيني طمأنه: «لا تخف، كل ما نريده منك هو أن تقل هؤلاء الشبان. حرام، أجانب». ارتاح السائق وأومأ موافقاً. وبعربية متقنة، ردّ أحد الشبان الأجانب: «نحن صحافيون. لا نريد المغادرة، بل نودّ إجراء بعض المقابلات».
ارتفع حاجبا الأربعيني بحركة آلية. تراجع خطوة واحدة إلى الوراء، ثم حدّق بالشبان الثلاثة، وغرق في نوبة ضحك قائلاً: «صحافي؟ كل هذه المعركة بسبب الصحافة. حبيبي، إذا عرف أحد من هؤلاء المجانين بوجودكم، فعلى الدنيا السلام. اجلس فوق، وانسَ أنك صحافي. أوكي حبيبي؟».
كانت الساعة تجاور الثانية إلا ربعاً فجراً. ربت الرجل على كتفي الشاب، فيما غادر سائق سيارة الأجرة ضاحكاً. لدقائق معدودة، أوحى الهدوء القسري بأن المعركة انتهت. لكن معركة من نوع آخر، بجبهة واحدة، سرعان ما اندلعت.
جبهة واحدة
تحوّل الممرّ الآمن إلى باحة رعب، بلا أي وجود عسكري، عندما خرج بعض الشبان من وكرهم، بوجوه ملثمة وقبضات تحمل العصي والحجارة، إلى الشارع الذي يضمّ المبنى الرئيس لوزارة المالية. وخلال ثوان معدودة، بدأ الصخب الهستيري.
جذب الشبان شاحنة صغيرة مزوّدة بخزان مياه، وثبتوها في منتصف الشارع، ثم شرعوا بتهشيم زجاجها. أفرغوا المياه في الأرض، وراحوا يرمون الحجارة كيفما اتفق، احتفاء بانسحاب الجيش القسري. كانوا كما لو أنهم يقولون، في ما يفعلون: «لا توجد دولة تستطيع كبح غضبنا. نحن الدولة».
استمرّ جنونهم نحو نصف ساعة، بلا أي رادع أمني، ينتظرون مرور السيارات كي ينقضوا عليها، مدججين بالعصي والحجارة، مزهوّين بسلطة فرضوها على العسكر الذي تجنّب إراقة الدماء، وبسطوة العارف بقوّته المستمدة من غطاء سياسي، يتغذى ويكبر يوماً بعد يوم، بذرائع طائفية.
شيئاً فشيئاً، حلّ الملل فوق رؤوسهم، بعدما اعتدوا على ثلاث سيارات، ثم لاذوا في وكرهم، وانتشر الجيش في المنطقة.
عند الساعة الثالثة إلا ثلثاً، كان الجيش قد فتح كل المداخل الأساسية، تباعاً: البسطا، بشارة الخوري، الخندق الغميق، جسر الرينغ، زقاق البلاط، سليم سلام، رأس النبع، الضناوي، وقبالة مبنى «كونكورد».
وعن هوية الشبان الذين هاجموا دوريات الجيش من الخندق الغميق، أكد أكثر من مصدر أمني قيادي، أنهم «لا ينتمون إلى أي جهة سياسية، وهم معروفون بتعاطيهم المخدرات ليلاً ونهاراً، وكانوا تحت تأثير المخدرات في أثناء تهجمهم على الجيش، الذي حاذر إراقة الدماء».
وتقاطعت أجوبة المصادر العسكرية على عبارة مفادها أن الجيش «كان وما زال، وسيبقى، حازماً، لكن بعدل، أي من دون الإذعان لشبان يتعاطون المخدرات. والحزم يأتي من خلال سبل ندرك متى وكيف ننفذها، بعيداً من هدر أي نقطة دم من أبناء الوطن».
قرار فردي؟
في حين أكدت مصادر أمنية وثيقة الصلة بملف التحقيق، أن «و.ع. ما زال في المستشفى، بسبب تعرّضه لحروق من الدرجة الثانية، وبالتالي فإن التحقيق الجدّي معه لم يبدأ بعد، والمتهمون الأربعة متوارون عن الأنظار»، يُطرح سؤال أساسي: هل ثمة جهة سياسية، اتخذت قراراً مباشراً بالاعتداء على وسيلة إعلامية، وما هي الأهداف؟
يُنسج من السؤال أسئلة عدة، وسط تضارب الروايات الأمنية: هل تتجرأ مجموعة فردية على الهجوم على وسيلة إعلامية، بالرصاص، هكذا بلا أي غطاء يحميهم من الملاحقة الأمنية؟ هل كان قراراً سياسياً، لكن مقرّره ارتجله بلا مراجعة قيادات الصف الأول في هذه الجهة السياسية؟
ماذا كان سيحدث لو أن و.ع. تمكّن من الفرار مع أفراد المجموعة؟ هل كانت التهمة ستوجه إلى أطراف سياسية أخرى، وبالتالي هذه الأطراف تردّ على التهمة، وبينهما جمهور يغلي ويقطع الطرق احتجاجاً، في العاصمة التي تحتضن كل الطوائف، ثم تقع الواقعة؟
مرّت من هنا
وجر أمس لن تصوّره بضع كلمات مكتوبة. الفتنة التي بدت في المرحلة الراهنة، كما لو أنها كلمة تتردد بهدف الترهيب فقط، مرّت فوق العاصمة بخفر، إلا أن شرارتها جاهزة اليوم، وربما تندلع بسبب دولاب مطاطي ينضح دخاناً، في سياق مدروس سلفاً، وربما تكون ضرباً من «المصادفة».
الفتنة كان يمكن لها أن تندلع، فجر أمس، لو أن الشبان، الذين تعرف المراجع الأمنية أنهم يتعاطون المخدرات علناً، صادفوا سيارة، أو حافلة، تقلّ شباناً من طائفة أخرى، وتبرحهم ضرباً.
كان يمكن للفتنة أن تظهر بوجهها الدميم، لو أن هؤلاء عادوا للانتقام، ومعهم شبان عزّ عليهم تعرّض أبناء طائفتهم للضرب، ثم تكبر الدائرة، من شارع هو بالأصل مقفرّ من العسكر، إلى شوارع ومناطق أخرى.
وبما أن العسكر يحاذر إراقة الدماء، وبما أن الأحزاب السياسية تتفادى الاحتكاك مع أبناء الطائفة لأسباب عدة، يغدو لرأس الفتنة جسداً، والجسد يسير من منطقة إلى منطقة، والدولة تراقب نموّه بيدين مكبّلتين.
مع ذلك، وعلى الرغم من خطورة الفلتان الأمني الراهن، ثمة من يريد إخفاء هذا الوجه الآخذ في النموّ، وتظهير الموضوع على أنه اندلع بسبب مقابلة تلفزيونية، تسبّب بـ«إشعال الغضب عند بعض الشبان، الذين تصرّفوا بطريقة غير حضارية».
ولأن أحد الشبان «الغاضبين» تم توقيفه، فقد غضب شبان لغضبه وتوقيفه، فأحرقوا «بضع مستوعبات نفايات، وحاولوا الاعتداء على الجيش، وانتهت المسألة، فهذا لبنان». هكذا، بهدوء لا يمـــت إلى أي معطيات ميدانية، يُراد حصر «الموضوع» بمقابلة تلفزيونية.
بذلك، وهمساً، تصوّب السهام على قناة «الجديد»، كما لو أنه يتعيّن عليها الاعتذار من المواطنين، فرداً فرداً، ثم من السياسيين، واحداً تلو الآخر، من دون الأخذ بعين الاعتبار، أنها خصّصت ثلاثة أرباع مقدّمة نشرة الأخبار، للاعتذار من كل «شخص شعر بالإهانة من تصريحات الأسير»، مستفيضة في بيان بدا أشبه بجلد للذات.
جنون فجر أمس لم يكن بسبب مقابلة تلفزيونية. وجه الفتنة ما زال خلف قناع مصنـــوع من ريش، ينتظر لفحة هواء مباغتة.