ألِف المعارضون السوريون الإقامة في لبنان. ذهب خوفهم. ورغم اتهامهم أجهزة الاستخبارات بمطاردتهم، باتوا يتحركون بحرية تشوبها بعض الاستثناءات المناطقية. كثيرون يتصرفون على اساس انهم في بلاد يُعد جزءٌ منها معسكر نصرة لـ«الثورة السورية».
بين الحمرا والسوديكو، تلتقي بعضهم. كذلك في أنطلياس. ورغم أن بعض مناطق البقاع والضاحية الجنوبية شبه محرّمة عليهم، إلا أن ما خلا ذلك مباح. لا يمكنك تمييزهم من هيئتهم الخارجية. لحىً مشذّبة وأحياناً ذقونٌ حليقة. تتحرّك قلّة منهم بسيارات زجاجها مزوّد بحاجب للرؤية، فيما يتنقل آخرون من دون وجل بسيارات لبنانية مستأجرة.
ينتشرون في المطاعم والمقاهي. يتناقشون في السياسة والأمن. يعقدون صفقات ويُزايدون بعضهم على بعض في موعد سقوط النظام. يُحددون ساعات الصفر حيناً ويندبون «شهداءهم» أحياناً مستذكرين مآثرهم. يُحلّلون في السياسة الدولية والاستراتيجيا. يحكون عن روسيا واميركا وتركيا. و«عن سوريا الجديدة ومرحلة ما بعد بشار الأسد». كل ذلك، ليس فيه محظور. لكن أن تجد بينهم مقاتلين متمرّسين فذلك يستدعي التساؤل، لا سيما أن المعلومات تفيد بأن عدداً من المقاتلين الذين شاركوا في أعمال قتل قدموا إلى بيروت لقضاء فترة نقاهة واستجمام، علماً أن عدداً منهم يعاني نكسات نفسية لهول ما شاهد أو اقترف.
في مقهى في شارع الحمرا، يُخبر أحدهم عن المرة الأولى التي نفّذ فيها حُكم إعدام ذبحاً بحق «عوايني عميل للنظام»، في منطقة تلكلخ. يستفيض المقاتل المعارض في الشرح عن الحاجز الذي كسرته التجربة الأولى، مشيراً إلى أنه بعد المرة الأولى تُصبح العملية آلية ومجرّدة من الشعور.
إذاً، وصل مقاتلون سوريون إلى العاصمة بيروت. تحرّكٌ ليس مفاجئاً، لا سيما أن متابعة مسار انتشار نشطاء المعارضة السورية على الرقعة اللبنانية تكشف عن مراحل عدة مرّت فيها قبل الانتهاء في شوارع العاصمة ومقاهيها. المرحلة الأولى شهدت انتشاراً محدوداً لهم في مناطق وادي خالد وعرسال ومشاريع القاع. حصر هؤلاء أنفسهم ضمن هذه البقعة الجغرافية، لكن المرحلة هذه تميّزت بحفاظهم على توخّي الحيطة والحذر حرصاً على السرية في تحركاتهم. كان هؤلاء مرصودين من جهاز استخبارات الجيش. المرحلة كانت لتبقى طي الكتمان، لولا تصريح وزير الدفاع فايز غصن عن وجود تنظيم «القاعدة» في جرود عرسال. وقد جاء ذلك على خلفية توقيف عناصر من استخبارات الجيش للمطلوب حمزة ق.، وما أعقبه من حيلة أدت إلى إطلاقه بعد محاصرة مجموعته التكفيرية لعناصر الجيش وتهديدهم بالقتل وانتزاع بندقياتهم منهم وتخريب سياراتهم.
عقب ذلك، بدأ المناهضون للنظام السوري بالتمدد. كان ذلك يجري على إيقاع الأحداث في سوريا واشتدادها، باعتبار أن معظم القرى السورية الحدودية المحاذية للبنان كانت خاضعة لسيطرة معارضي النظام. هذه كانت المرحلة الثانية. وترافقت مع احتضانٍ سياسي منقطع النظير لاقوه شمالاً. أسفر ذلك عن وصولهم إلى عاصمة الشمال طرابلس. حجمهم المتعاظم دفع بالبعض إلى تسميتها «مدينة الثورة السورية»، لا سيما ان شخصيات سياسية وفّرت مظلة حماية للبارزين منهم، الذين يتنقّلون حاملين معهم أسلحتهم الفردية خشية تعرضهم لـ«خطف من جهات موالية لحزب الله». مع الإشارة هنا إلى المعلومة المتداولة والموثقة لدى أكثر من جهاز أمني تفيد بأن قيادياً بارزاً في قوات المعارضة السورية، من ذوي الميول الإسلامية المتشددة، رُصد أكثر من مرة يتنقل في سيارة تحمل لوحة مجلس النواب، بمواكبة سيارة تقل مسلّحين. فضلاً عن المعلومات الموجودة عن تنقّل قادة من «الجيش السوري الحر» تحت حماية شخصيات سياسية لبنانية.
ورغم الاحتضان الذي توفّر لهؤلاء، إلا أن الخيط الرفيع الذي كان يحافظ عليه المعارضون السوريون لم ينقطع إلا مع حادثة توقيف شادي المولوي وإطلاق سراحه تحت الضغط السياسي والشعبي. آنذاك، كُشف النقاب عن مرحلة جديدة وأُسدل الستار على ما سبقها. فالمرحلة الجديدة قوامها «حصانة سياسية» ركيزتها «منع أي جهاز أمني من توقيف أي ناشط سوري مهما كان جرمه». هنا تنفّس هؤلاء الصعداء، ليبدأ دبيبهم في مختلف المناطق. الغطاء الأمني صار مشاعاً. ترافق ذلك مع غض نظر غير مسبوق من قبل فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي تجاه مختلف الأنشطة السياسية وحتى العسكرية التي تتعلّق بالأحداث في سوريا. فقد نأى فرع المعلومات بعناصره عن هذا الاستحقاق. وقد سبق ذلك كفّ السياسة ليد الأمن العام واستخبارات الجيش على هذا الصعيد. عند هذه النقطة، لم يعد يجرؤ أيّ من القيّمين على هذه الأجهزة على توقيف أي ناشط في المعارضة السورية المسلحة، لافتقادهم الغطاء السياسي.
الخلاصة السابقة باتت معمّمة لدى معظم المعارضين السوريين الذين باتوا يعلمون أن توقيفهم محرّم في وطن الأرز. ورغم ذلك، يؤكد أحدهم أن هناك مسائل يحتاطون عند تنفيذها، لا سيما مسألة نقل السلاح. وبما أنهم «يعلمون أن أجهزتهم الهاتفية وتحركاتهم مرصودة من قبل رجال حزب الله، فإنهم يأخذون ذلك في الحسبان».
قاطع رؤوس في شارع الحمرا
شابٌ لا يتجاوز الثلاثين من عمره يجلس في أحد المقاهي المعروفة في شارع الحمرا الرئيسي. يأخذ مكانه بين رجلين، أحدهما لبناني. يبرر وجوده في بيروت بطلب الراحة النفسية. يتحدث عن الفظائع التي شهدها. يسرد روايات لجرائم يقول إن النظام ارتكبها. يسرح قليلاً ثم يعود ليتحدث عن المرة الأولى التي ذبح فيها إنساناً. يصف رؤيته الخوف في عيني الرجل الذي «لم يبد أي مقاومة. فقط كان يتلفّظ بالشهادة». يقول إن زميله ناوله سكيناً طالباً إليه تنفيذ حُكم الإعدام به، زاعماً أن صديقه نفّذ عدة عمليات قبله لتشجيعه. يذكر أنه أمسك السكين بيدين مرتجفتين ثم أمسك بشعر الرجل. يغوص في التفاصيل، فيذكر أنه داس على ظهر ضحيته قبل ذلك ثم شدّ الرأس إلى الأعلى قبل أن يغرز السكين في رقبته بتشجيع من صديقه الذي كان يصيح: «الله أكبر». يذكر أن السكين علقت في رقبة الرجل، لكنهم تمكن من اقتلاع رأسه. يقول إنه لم يستطع النوم لثلاث ليالٍ متتالية. فقد كان كلّما يُغمض عينيه يسترجع مشهد الرجل المذبوح الذي كان في أواخر الأربعينيات.